جوازات "الأنا"
جوازات
"الأنا"
طلال مرتضى*
قبل برهتين من ضجر المقال، كنت
تقرؤني دون مواربة، "أنا" كتبتني.
لن أضللك بالحجج الواهية، وأذيل لك المقال بمقولة ساذجة بات يعبرها القارئ مرغماً
بابتسامة صفراء كمفتاح أولي لاستغبائه، تدّعي بأن الشخصيات التي عبرتموها أو
ستعبرونها تشكلت محض افتراض حتى لو تشابهت مع مثيلاتٍ لها في الحياة أو مثّلَ أحد
ما أحد أدوارها.
تلك عتبة أولى لتأسيسٍ جديدٍ من الكذب بين الكاتب والقارئ، وبناء منارة للشك عند
المطالع. إنه التنزه المكشوف من "الأنا" الراغبة الخاضعة اليوم لسلطة
العقيدة المتخففة بقوانين العادات والعيب!.
كل هذا لا يجدي، فالكاتب الذي يغمغم فكرته فيقع في مطبِ الإسهاب دون مبرر ويُفقدها
متعة اللحظة حين يصيب مقتل القارئ، فقط يفاجئه وجهاً لوجه ويركزها في حواسه بثبات.
حتى لو وقع في فخ المباشرة، وحده درب الصدق أقصر.
ولِمَ لا ما دامت "السيرة" تتيح لنا ما لا تتيحه صنوف الكتابة الأخرى؛
بها نذهب نحو مجالاتنا الحيوية لنستبطن تاريخاً بعينه وجملة من الأحداث المتصلة
المنفصلة. الكثيرون منا يتظللون خلف أصابع خيباتهم حين يتعلق الأمر والحديث عن
"أناهم". فالكاتب يمقت الناقد اللئيم الذي يقبض عليه منذ المطالع الأولى،
مما يجعل الأول متردداً حدّ تسفيه المقولة أو تبديد خيوط الفكرة بكلام الهباء
والحذلقة المكشوفة في محاولة بائسة للتنصل مما يعتقده بالتهمة، لذلك يولم لنصه قبل
الشروع في الكتابة قائمة الممنوعات والخطوط الحمراء التي يجب تجنبها لتحاشي حكاية
الوقوع في تأويلات وشبهة الناقد الرقيب.
متناسياً عن سابق مقال بأنّ "أنا" الكتابة لها حضورها، كما المفردة
المنتقاة والتي ترفع من رصيد النص المترهل، بالتأكيد لست "جان جاك روسو"
أو القديس "أوغستين" حين قيل بأن اعترافاتهما كانت بمثابة انعطافة
تاريخية مهمة، لكنني أريد كما أرادوا في اعترافاتهم، أن أكتبني بحرية تامة وعلى
نحو مغاير يتخفف الحقيقة، وهو ما لا يتيح لي القول في مكان آخر من أردية الكتابة.
أنا كل الشخوص التي تعبرونها أو تتعرفون إليها، أو تعتقدون، أو تتذكرون حدثاً ما
يشابه سير حدثها، أو صوراً تطابقت مع بعضها البعض هنا، قد توافدت في مخيلتكم على
غير مناسبة.
أنا أشبه تماماً ما تذكرتم قبل قليل بل سأعترف وبكل وضوح بأن قصة الشبه في كثير من
الأحيان تأتي فجة الوقع على أذن المتلقي، لا تصدقوا الافتراضات، فأنا هو أنا..
وبصراحة متناهية: أنا "القجدع"*..
الرب، الذي صنعني "كامل صالح" في روايته، ولن أرتضي بغير هذا الدور. من
باب يحق للكاتب ما لا يحق لغيره، لقيام روايته كما يريد بالمطلق، الروايات تمثل
حياة كاملة، كانت واقعاً أو افتراضاً!.
فتلك الحياة تحتاج إلى مُسيّر لها.. فكان "القجدع" الرب الذي يقود فضاء
المروية ذاتها، للإله وحده حق التشريع، فهو الذي يعرف مصلحتنا كعبيد له، يحلّل
ويحرم، يكافئ ويحاسب، كيف لا وهو القادر على كل شيء، لدرجة أنه صار يعترض على
الكاتب الذي اخترعه، كحامل لينجو بمرويته ومفتاح لخلاصها من ألسنة النقاد، أو
كعصاً يهش بها في وجه باقي الشخوص في الرواية، الذين غالباً ما تأخذهم العزة حين
يتمثلون أدواراً مهمة أو يتبوؤن مناصب فاعلة، فيعلنون التمرد على الكاتب من داخل
النص.
فكانت الفكرة أن يجترع
الراوي لهم إلهاً يزلزل أركانهم إن لزم الأمر، وما لم يكن بالحسبان حين انقلب
السحر على الساحر، بعدما انتفض "القجدع" في وجه مجترعه معترضاً على كل
شاردة وواردة في السياقات، حدّ التهديد بفضحه علانية..
فهو العارف كــ "رب" بكل خفايا الراوي ما أُعلن منها وما خفي. وتلك هي
"القشة التي قصمت ظهر البعير" عندما استفاق كامل الراوي قبل فوات الآوان
وقبل أن تفصل الفأس الرأس، ليتدخل على الفور مستعملاً سلطته على نصّه أو ورقة
"الفيتو" التي لم يزل يحتفظ بها لهكذا موقف، ليعلن أمام الملأ: نهاية
الرواية.
_____________________
*قجدع: ربّ لمروية للكاتب اللبناني
كامل صالح.
*موقع إعلامي عربي/ فيينا.
تاريخ النشر ::3/25/2023 4:29:04 PM
أرشيف القسم