تباشير مهدي القصيدة
تباشير مهدي القصيدة
طلال مرتضى*
الكاتبُ الذي صار خارج نص الحكاية،
أنا.
للتو وقعت أسيراً في شرك الحبكة. كان عليَّ التوقف على الأقل بين جملتين
اعتراضيتين لاستكشاف الطريق أو التلطي وراء قوسٍ منحنٍ بعد نقطتين من مفاتيح القول.
بالطبع لن يتوقف النقاد عن دسِّ تُرهاتهم طيّ مفازات النص؛ وفي أحسن الحالات
سأتلمس شماتتهم، بعدما تتصدر الصحف في اليوم التالي، عناوينهم السليطة بالمجاز
المبطن، وما نقدناهم ولكن كانوا نصوصهم يكسرون.
أمس بعد أن غسلت روحي ببقايا ضوء مُجعد -تهدل عن غير نية، من عمود إنارة بائس، دوح
سهل الصقيع الممتد حتى ضفاف "الدانوب"- هززت شجرة الذكريات كي أتعطر بما
تيسّر لي مما بقي عالقاً على مشجب البلاد التي لفظتني مثل ولد عاق.
عُدتُ إلى الوراء بفعالية الخطف خلفاً "فلاش باك" لبرهة، كان مخاض
المنولوج برأسي عسيراً في كل المطالع، فالجعبة خاوية إلا من جملة الخسارات، التي
ما فتئت تنزاح واحدة حتى تتجلّى أخرى، وكأن يد القدر شاءت أن ترمي بكل خيباتها على
عاتق هامشي المتخم بالانكسارات.
الليل المكين تلحف بالصمت، بدا وكأنه عابر حبر لا يدري في أي السطور يهجع، مثله
مثل أي غريب لا ظل له.
كان لا بد من كسر رِتم نسق القصة، فليل المغترب يحتاج أن تُولم له كل ممكناتك
لتبدد صقيعه.
جلَّ ما تحتاجه لحظات السكون هذه، أن أستعير لها من رواية "مقصلة
الحالم" عواء الذئب "سرحان". وحده "سرحان" قادر على
تمثيل الدور بعناية فائقة، تجعل من جمهور العزلة يصفق بشكل محموم حدّ احمرار الأكف.
عواء الذئب في فراغ صحراء الروح، أشبه بمعزوفة "تشيللو" تخرجك عن طورك
المألوف، تودي بك نحو نواصي الورق، كأقل خسارة تُمني بها دفتر الخيبات المتراكمة.
أدرك بأنّ هذا الليل يشبهني في اليُتم، في الهباء، في السكون؛ الفرق بسيط جداً
بيننا، قد نتعادل واحدة بواحدة أو قد أضاهيه بأخرى، حين امتلكتُ أربعة جدران
وسقفاً كئيب الضوء، بينما بقي هو متفلتاً في شوارع عزلته، ينظر نحوي من خلف
النافذة العجفاء ويصفر شزراً.
لا شك أنّي بتّ أشعر بالتواد بيننا، كأخٍ لم تلده أمي، ورضيت به أنيساً على الرغم
من طبعِ الغدر الذي يعتريه لحظة انشغالي عنه، ليدسّ سمّه في عظامي مثل مخدر منتهي
الصلاحية، كان يعرف أنّ في البرد مقتلي، فيداهمني.
لا مناص بأن النص قارب الخواتيم، وبات يتوسل القفلة، كنزقٍ أخير عند خط النهاية،
يرفل أنفاسه على مضض الحبر، ما كان عليَّ فتح صندوق الوجع على ضوء شمعة، تبتبت لحن انطفائها بالبكاء؛
لستُ أدري لفرقة العسلِ أم من حرقة الفتل.
من باب السليقة أعرف أنّ النهايات المفتوحة تجعل من القارئ المفترض شريكاً، لكنه
التوجس الذي يسكنني وأنا أدخل تلافيف دماغ القارئ المتعطنة، بأن تأويلاته اللا
محسوبة سوف تشدّه نحو الشبهة التي أتحاشى السقوط في غياهبها، لذلك تعمّدت أن أسدّ
نهم قفلتي بنهاية مشرفة، أخالها كلاسيكية المعطى، أو أقرب إلى نهاية فيلم هندي،
يدمغ بكلمة "END" عند زواج البطل من البطلة أو موتهما.
سرت رجفة مفاجئة في أوردتي، تقارب مطالع رعشة النشوة، مع فارق المذاق، بعدما صحا
هاتفي المسجى على أريكة غيبوبتي، معلناً امتلاء المذخر..
بالطبع جلّ ما لا أحب هو قطع صلة
الأرحام، حين قمت ودون تردّد بفصلِ حبله السري عن القابس. الفرصة مواتية باتت
لإطفاء الشمعة الكئيبة والاستلقاء على الأريكة بات مطلباً، بعدما قررت القيام
بجولة تفقدية للرسائل الفائتة..
ومما لا شك فيه أن إغلاق الهاتف لعدة ساعات في ليلة الميلاد أمر صعب ولا يقاوم..
كانت القصة أشبه بضرب تحدٍّ، ولِمَ لا وأنا المقطوع حتى مني!..
فالشجرة التي خرجتُ من لدنها فنناً ثم غصناً، ماتت وقوفاً وتناهشتها فؤوس الحطابين
قبل أن يشتد عودي.
فكان قرار العودة إلى الورقة والقلم، مقابل إخماد هذا الدخيل الذي لا ينفك عن
مشاغلتي بنقله لأخبار الحرب وويلاتها في تلك البقعة التي وسمتها على روحي ببلدي.
ما إن تعمشق الهاتف على هواء الشابكة –النت- مثل طفل أمسك بتلابيب أمه في غمرة
الازدحام، حتى انفجر زاعقاً بعشرات الرسائل التي تجمهرت مرة واحدة عند كيبورد
الكلام..
كان هذا بعد فسحة صمتي بقليل، قبل استيقاظ أصابعي من شهوة الكتابة، تماماً عند
أطراف سهل اللغة الممتنع، وقت تجمهرت عقارب الساعة فوق رأس منتصف القصيدة.
الشاعر الحالم جلّ ما يشغله، اجتراع قصيدة لم يزن وزنها شاعر قبله.. لا ضير لو
نثرها نصاً متماهياً في غموضه حدّ الدهشة، فوق يباب ديوان ضَل دوال معانيه في قلب
الشاعر..
القصيدة ذاتها لم تعمر طويلاً، حين عاد بها إلى البيت، ظل طوال الطريق متأبطاً
الصحيفة التي نشرتها، مثل عشيقة، لا ينفك عن شمّ حبرها المائز. استفاق متوهلاً على
حلم بغيض، حينما وجد زوجته تَمسح بها زجاج النوافذ، تمتم بحرقة: والكاظمين الغيظ.
مُنذ تلك الواقعة أيقن بأن لا قيامة للشعر، وأن انتظار مهدي القصيدة بدعة حقة يراد
بها الحضور، اجترعها شيطان القريحة كي يُجبر بها كسر رِتم المقال..
لم أسكت، بل دونت احتجاجي -كـأضعف الأوزان- على شريطِ المهجة العاجل: والحبر إنّ
الشعر لفي قهر.
ما أدهى هذا الليل، رغم بؤسه، رغم البرد الهاجع في كل تفاصيله، لا ينفك عن نكزِ
خاصرة الذاكرة، يدسّ أصابعه في أنف الوجع ليعطس من نخاعه، حينها يلملم ما تبقى من
خيوطه وينهج متخففاً نحو سكة قطار الصبح، بانتظارِ موكب الشمس القادمة من شرق كوكب
الحكاية.
الكاتب الذي ما فتئ يتلمس زجاج غرفته في المغترب البعيد، بحثاً في المجاز عن كسرة
قصيدة، قبل عشرين عاماً مسحت زوجته بها آخر حلم له، أنا..
كابد كل أصناف الكتابة، أولم لها كل ممكنات القول، مارس وشياطين الشعر دعاية الفكر،
قاسمها سريرة الغواية، لم يتوانَ للحظة بأن يدفق في حوض رغبتها حبر روحه، بصراحة..
أنا.
لا تنظروا إليَّ بشرر، لا أحب الأحكام المتسرِّعة؛ بالتأكيد لكل قصيدة مبرر.
مرَّ وقت طويل، تجاوز عمره ثلاثاً وعشرين قصيدة ونيف، كعلامة فارغة، فاصلة، ما بين
تاريخ الهجرة والميلاد، يوم تعرضت للاغتصاب من قِبل (المصير المُسير)، كنت حينها
في غمرة التحضير لكتابة رواية.
*رئيس التحرير/ فيينا
تاريخ النشر ::2/25/2023 5:39:10 AM
أرشيف القسم