Mobile : 00436889919948 [email protected]
Follow us:

بوابة دمشق

امرأة على الضفة المقابلة للروائيّة اليابانيّة متسويو كاكوتا

امرأة على الضفة المقابلة للروائيّة اليابانيّة متسويو كاكوتا



 

امرأة على الضفة المقابلة للروائيّة اليابانيّة متسويو كاكوتا

قراءة أدبية

 

محمد رستم*

كطريدة بريّة وحشيّة الملامح مجهولة الهيئة مراوغة، بل كفرس جموح بدت لي رواية امرأة على الضفة المقابلة وكم مرة حاولت أن أجد مكمن استسلامها فعجزت وبعد مراودات عدة استكانت وأسلمتني قيادها

العنونة شاعرية تصور لوحة تضج بالحياة نهر وعلى ضفته الأخرى امرأة  مخالفة، مغايرة

أبطال الرواية مجموعة نساء يرغبن أن يقفزن إلى الضفة المقابلة من نهر الحياة، والانتقال إلى عالم آخر غير الواقع الّذي يتألمن منه

من الملاحظ أنّ المختصر الذي تصدر المرويّة لا يمت إلى عمق الرواية وهدفها الإشاري بصلة، إذ يقدم فهما سطحيّاً لها لأنّها لا تتوجه نحو مظلوميّة المرأة  كما أشارت  وإن اعتمدت الرواية المرأة نموذجا للمعاناة   فذلك لأنّها الخاصرة الرخوة في المجتمع

والمنجز يضجّ بنفور الإنسان من الآخر ففيه الكثير من حالات مضايقات  الآخر، إشارة إلى مساوئ الحضارة الحديثة التي تنجب مثل هذه النماذج  ذات المعايير الإنسانيّة الناقصة.

حتى النساء اللواتي يأتين الحديقة للإشراف على أطفالهن  فهن يحملن الكراهية والحقد على الآخر (لا حظت أنّ هناك جوّاً من التآمر بين بعض الأمهات اللواتي يترددن على الحديقة العامة للإشراف على أطفالهن يحملن الكراهية والحقد على الآخر) ونظراّ لانتفاء العلاقات الإنسانيّة السليمة حرص الأهل على تدريب أطفالهم على صداقة الآخرين. (أرادت من أكاري أن تتعلم وحدها كيف تعقد الصداقات ص 13)

ولعل التركيز على هذا الجانب يؤكّد الهدف الإشاري من المروية الذي يتوجه بالإدانة الصارخة للحضارة الحديثة، لأنها تجرّد الفرد من إنسانيّته  فيغدو أشبه بآلة يعيش بين قذارات الحياة (وهذه كلمة حق يراد بها باطل)      والهدف البعيد لمثل هذه الأعمال التي تطرح الأسئلة الكبرى حول الإنسان  والمصير والكون  والوجود والحضارة  هو التعمية على واقع الفرد بذاته  طبعاّ. فالحقيقة أنّ مأساة الإنسان هنا تكمن في طبيعة النظام الرأسمالي  وليس في الآلة أو الحضارة الحديثة. فالمعاناة لا تشمل كل أفراد المجتمع إذ تنعم الطبقة الثريّة بالرفاه والبذخ والعلاقات الاجتماعية الصاخبة             بينما يعمل الفقراء ليلاّ نهاراّ وتوكل لهم الأعمال القذرة كي يكسبوا قوت يومهم، وتصهرهم حالة من الانكفاء نحو الداخل     

ونسأل هنا هل يعاني الأغنياء ما تعانيه شخصيّات الرواية من ضيق وقهر  وإرهاق وذل البحث عن لقمة العيش بكفاف.. طبعا أشارت المروية إلى النعيم الذي تستمع به الطبقة الغنيّة. (آوي وناناكو تعملان في خدمة أسرة لديها نزل (فندق ) وكانتا تشاهدان شباناً وشابات لا يزيدون عنهما في العمر يتعانقون ويصخبون ويمرحون على الشاطئ يبرزون من نوافذ السيارات ولكن بالنسبة لآوي بدوا وكأنهم ينتمون إلى عالم آخر.

إذن العلاقات الاجتماعيّة الفاسدة القائمة على التنمر والعداوة وتشكيل عصابات عدوانيّة في المدرسة هي خاصة بالطبقة الفقيرة، وكذلك تهميش الزوج (شوجي) وجعله خارج دائرة الاهتمام فهو غير مبال رمادي المشاعر  إنما تعبير عن انعزاليّة الفرد (شوجي يهتم بالمباراة أكثر من اهتمامه بعودتي من العمل ص5)

وواضح هنا كيف يوجه النظام الرأسمالي مشاعر الفرد نحو بهرجات ثانويّة فارغة على حساب العلاقات الأهم في الحياة فتغدو قدم رونالدو أثمن من رأس أنشتاين وأرسطو معا، وتلمح الرواية إلى المفارقة بين الأثرياء والفقراء والد أوى من الفقراء (سائق سيارة أجرة ) وابنته تخجل أن يعرف أحد ذلك (هي ابنة من يقود سيارة أجرة سوف تحقق التقدم مع تلك الأميرات الراقيات المنحدرات من عائلات كريمة كلهن) فالنظام الرأسمالي يستنفذ كل طاقات الطبقة المسحوقة  ووالد آوي مثلاً  يكدح ليلاً نهاراً لتأمين لقمة العيش (الآن أصبحوا محظوظين إذا رأوه على مائدة العشاء مرّة كل ثلاثة أيام) وكذلك أمها التي تبحث عن عمل بشكل دائم.

وهناك الكثير الكثير من الأدلة والتي تظهر الحالة النفسيّة السيّئة التي تكبل روح الإنسان في هذه الرواية سببه النظام الرأسمالي، فالحضارة الحديثة بريئة براءة الذئب من دم يوسف، ولعل اهتمام شخصيات الرواية بأنواع المأكولات وحضور الأطعمة وتفصيلاتها بكثرة يشي بأن الأكل والحصول عليه يشكل أولوية في اهتمامات الطبقة الفقيرة.

ومما يؤكّد أنّ الرواية لا تنحو جهة مظلوميّة المرأة وتهميشها، كما أشارت المقدمة هو تبيان حالة والد (أوي) الواقع تحت مطرقة الفقر وسندان الحاجة  وكذا التأكيد على موضوعة الصداقات الذي يشكل عنصراً هاماً في المنجز  ولعل التركيز على تنمية موهبة عقد الصداقات عند الأطفال يؤكد الرغبة في التوجه إلى الجيل الجديد في حل الأزمة التي يعاني منها المجتمع الحضاري وهي الميل إلى العزلة (بما يشبه مرض التوحد ) وعدم رغبة النساء بالزوج وتكوين أسرة هو من مفرزات الميل إلى الانعزالية والفردانية والوحدة (تستطيعين أن تعتني بنفسك دون وجود رجل) وواضح كيف يبدو خطر العزلة لبطلة الرواية تقول (أريد لابنتي أن تكون أكثر ذكاءً وانطلاقاً واجتماعيّة) ويؤلمها ألاً تكوّن ابنتها صداقات (تتردد ابنتي إلى المدرسة منذ شهر ولم تعقد أية صداقة )ص111) إذن الميل إلى العزلة ظاهرة في المجتمع الحضاري وبخاصة عند الفقراء (أمضت آوي الأيام داخل فقاعتها فقاعة من الصمت) قالت سايوكو (خوفي مرضي من الوحدة ) وفي ص 113 (تقول آوي إيجاد أي شيء يزيل الخوف من الوحدة أهم من الحصول على عدد من الأصدقاء بحيث ينتهي بك الأمر إلى الإحساس بالرعب من العزلة، ولعل من مظاهر تفكك العلاقات الأسريّة هروب الأولاد عند بلوغهم سن الرشد

وهذا وارد كذلك في رواية (كافكا على الشاطئ) لهاروكي موكورامي وتكرار كلمة هروب في أكثر من مكان في المروية ص119(فيعتقد الناس أنكما هاربتان ) ص129(لا أظنكما هاربتان) صاحبة النزل تقول (نعم هربت وذهبت مع شاب إلى طوكيو) كما أنّ عرض برنامج تلفزيوني المراهقات المتمرّدات يؤكّد على تفشّي هذه الظاهرة وناناكو تقول لا أريد العودة إلى المنزل ص142 أجابتها أوي أنا أيضاً لا أريد العودة إلى المنزل لا أريد لا أريد.

وهي (تردد اللعنة على كل شيء مع أنها غير غاضبة تردد باستمرار اللعنة على كل شيء) هذا بالطبع يدل على الغضب الدفين على المجتمع ص155، وكما أسلفت اختارت الكاتبة إناثاً كبطلات لمنجزها باعتبار المرأة هي الضلع القاصر والخاصرة الرخوة في مواجهة قهر النظام الرأسمالي للإنسان تحت يافطة الزعم بأنّه القهر الحضاري.

وتحت سطوة هذا القهر ومن مفرزاته تخلي المرء عن قيمه وأخلاقياته  وذلك للحصول على المال بأيّة وسيلة (آوي وناناكو تقومات بسلب المال من (كوميكو) تحت سطوة التهديد بالسلاح أو اللجوء إلى العمل كمومس وهي فكرة غير مقلقة وبخاصة لأنّها وناناكو مارستا الحب في بيوت الحب من أجل المال، في مثل هذه الحالة من الضياع والجو القاتم يصل المرء إلى طريق مسدود  يلفه قلق نفسي مغمس بالسوداويّة تقول ناناكو (إننا لا نصل إلى غاية) لذا فإحساس آوي وناناكو باللاجدوى من تراكم السنين  دفعهما إلى فكرة الانتحار قفزاً من فوق بناء وكمثال على تفكك العلاقات الأسريّة وانعدام العاطفة تقول ناناكو، إنّ أسرتها لم تقدم بلاغاً باختفائها بعد مرور شهر على ذلك.

فالعلاقات الإنسانيّة سطحية باهتة حتى بين الصديقتين آوي وسايكو فعثرة صغيرة الصداقة كفيلة بأنهاء (إذا لم يعجبك هذا فلا تكوني جزءاً منه الأمر بهذه السهولة)

الرواية إذن تصور حالة الفرد الذي تطحنه ألة المكنة الرأسمالية (الحضارة الحديثة بحسب زعمهم) في واقع كابوسي يعيش وحيداً حائرا قلقاً يعاني من قحط المشاعر لأنّه مغسول من دفء العلاقات الأسريّة فينحدر نحو قيعان الجفاف المادي والتيه اللانهائي الذي تخبّ فيه البشريّة في مدارات الضياع والقلق. لأنّ الرأسمالية وبخاصة بعد الثورة الصناعيّة الثالثة (العالم الرقمي) برمجت الإنسان المعاصر ليكون الفرد الاستهلاكي بعيداً عن الثقافة الإنسانيّة التي تنطلق من قيم الروح والعقل والمشاعر النبيلة

وهنا أذكر بأسطورة جلجامش الذي سلط عاهرة لتحويل أنكيدو من حالة التوحش إلى الإنسانيّة مستغلاً رقة الأنوثة وما تقوم به النيو ليبراليّة هو إعادة الإنسان إلى ما قبل الحالة الحيوانيّة إلى التشيّؤ إلى الحالة الماديّة التي أطلقت غربانها وعزفت ألحانها القاتمة وما هروب شخصيّات الرواية من الحضن الأسروي إلّا تعبير عن صقيع هذا الحضن إذ غدت الحياة سديميّة عبثيّة جوفاء  فيغرق الفرد في السوداويّة حين تلسعه عقارب  الفردانية والانعزاليّة لذا مضت الشخصيّات على سراط التغرب من واقع جاف وكل ما يريدونه الانطلاق إلى عالم آخر حتى لو كان الانتحار خشبة خلاص وشراعاً يبعدهم عن هذا الجحيم البارد والبليد وهو الصندوق الأسود في المرويّة، وبالتأكيد وصف الطبيعة بجزئيات (المطر المنازل الطرقات  الغابات السماء الحشرات) غايتها تأكيد واقعية الرواية ودعوة للعودة إلى الأم الطبيعة رداً على صلف الألة.

في الحقيقة الرواية قصّتان أو مرحلتنا من مراحل حياة آوي، آوي مع ناناكو مرحلة زمنيّة وآوي مع سايوكو مرحلة أخرى عمدت الكاتبة إلى الخلط بين المرحلتين لتكسر تراتبيّة الزمن السردي لتبدو المرويّة وكأنّ تعتمد الخطف  خلفاً، طبعا حقق المنجز الإرضاء الجمالي حين أبدع من القتامة والألم بهائيّة جماليّة  

 

*كاتب سوري

 

     

 

 



تاريخ النشر ::4/16/2023 12:20:55 PM

أرشيف القسم

صفحاتنا على مواقع السوشيال ميديا