في المنفى البارد من العزلة، جلّ ما يتمناه المرء هو استرجاع المحطات
اللذيذة التي عبرها في حياته السالفة؛ ليكسر بها صقيع الذكريات الجاثمة
على صدره
مثل حرز مرصود ضد الفرح أو لعنة تابعة لا تفارقه كَاسمه الذي لم يختره.
من ذا الذي يقترب مني حدّ تعريتي، لمن هذا الرقم الغريب الذي دكَّ مضجع بريدي على
حين مكاشفة. سألتُني.
كان بمثابة غيمة مختنقة حدّ الحبل، انفجرت دفعة واحدة فوق كومة ثلج، كنتُ أدرأ بها
نفسي من شر عيون الشّمس التي تطل بخجلٍ عبر شقوق
النافذة على شكل خيوط من نور،
سرعان ما تتبدّد على البلاط لتصير مثل سجادة أكلتها أقدام عابريها حدّ الاهتراء.
- "آااااه".. طويلة خرجت من فمي مترافقة بارتعاشة ناعسة سرت بين أكتافي
كردة فعل عفوي احتجاجاً على اقتحام خصوصيتي، الخصوصية
التي نتذرع بها نحن ركاب
المغترب الجُدد؛ حين يضعنا أحدهم -مثل قطار متفلت- على سكة المواجهة.
- من أنتَ.. من سمحَ لك أن تدخل في تفاصيلٍ كنت أزملها بلبوس الواقع، مشبعة
بالتضليل والغموض حدّ الإيهام؟!.
إنه الفضول وليس سواه، وهذا الذي عبرني بالأسئلة تواً بالتأكيد المطلق، يعرفني
كأنا.
استذكرت في تلك اللحظة، "عزيز" ذلك الرسول الذي صنعته "وفاء عبد
الرزاق" في المتخيل بطلاً لمرويتها "حاموت" ليتحكم بالسلطة المطلقة
في أحداثها وعلائقها، "عزيز" لم يكن في لحظة ما مستبداً أو متغطرساً أو
ساذجاً، بل كان متماهياً مع أناه تماماً كما أرادت كاتبة المروية، بالتأكيد
هو لا
يحمل الكثير من صفات البشر ولا يتصرف بتصرفاتهم، وهذا يدحض تماماً مقولة، أنه يشبه
"القجدع". لم يكن "عزيز" سوى رسول مهمته
تنفيذ وصايا الإله
الأعلى "القجدع" فهو قادر على قبض الأرواح، وقادر على افتعال المصائب
وكذلك يمكنه أن يهب الديمومة لمن يريد بمعية
إلهه الذي في السماوات..
لا أدري ما المناسبة التي جعلتني أستحضر من الذاكرة القرائية "عزيز" هذا،
المنشغل في مهمة قبض الأرواح الشريرة منها والطيبة، الآثمة منها والبريئة؟!.
هل من علاقة ما بين الرسائل البريدية التي وصلتني من رقم مجهول، وبين نبش حكاية
"عزيز"؟.
ربطاً أرجئ الأمر إلاّ أنّ هاجساً ما دغدغني لاستحضاره، علني أستعيد علاقتي
السابقة به. نعم كنت وإياه نعرف بعضنا البعض دون مواربة.
هو يراقب تصرفاتي كما
أُوكل إليه، ولكنني كنتُ أتتبع أثره وهو يترك إشارته في المكان الذي يريد دكّه، أو
على وجوه شخوص المروية الذين
حانت نهايتهم؛ بالطبع كان يدرك بحكم قوة معرفته
الخارقة، أنني أمقت تصرفاته، لهذا كنت أنادده مستنكراً وهو يضحك حدّ القهقهة عليَّ
ويقول:
- أنت لا تفقه شيئاً.
ياااااه.. كم أحتاجك اليوم يا "عزيز" حاموت"، قلت.
تلك التنهيدة خرجت مني بعد عدة رسائل أرسلتها، لم يتلقّها صاحب الرقم المبهم
مني، والتي افتتحتها بالسؤال، من أنتَ أو منْ أنتِ؟!.
دون جواب، وأيّ جواب يأتي من بلاد أصبحت مثل "حاموت" ثانية يعمّها
الخراب؟.
و"عزيز" وحده صار المتوكل في أمرها.. البلاد التي لم يعد يفرق أهلها إن
كانت صلاة الجنازة صارت فرضاً أم واجباً، لكثرة المداومة عليها
بفعل الموت؟!.
*رئيس تحرير منصة فن ومدن/ فيينا