سعيد رضواني : متعة التخييل حين يكتب الواقع
سعيد رضواني : متعة التخييل حين يكتب الواقع
بقلم/الحبيب الدايم ربي
لم أكمل بعد قراءة رواية الصديق سعيد رضواني " أبراج من ورق" ، ولست في عجلة من أمري... كما أن حوافزي لقراءتها قد لا تكون لها علاقة بفوزها بجائزة أسماء صديق.. ولئن سعت إليها الجائزة فذاك رزق ساقته الموهبة إليها، وكرزة فوق كعكة الإبداع كما يقال. لأن لي اسبابي الذاتية لقراءتها حتى من دون هذا السبب...فمنذ اطلاعي على " مرايا"هذا الكاتب القصصية الصادرة سنة 2010 لفت انتباهي إلى اي مدى (هو) يشق تفرده في الحكي بنفس روائي يؤاخي بين الكعكة والكرزة في وليمة الكتابة.
ولأننا لا نقرأ ما نقرأ من دون ذاكرة تجمع بين الخلفية المرجعية العالمة وبين التجربة الشخصية، فإن لي من المسوغات الخاصة ما يدفعني إلى تأجيل هذه القراءة وتعجيلها في آن ..بغض النظر عما يبدو في كلامي من تناقض ظاهري...فإذا ما استثنيت الوعكة الصحية الطارئة وحميا العيد والتحركات هنا وهناك...وهي عوائق حقيقية...و مبررات...فإن المسألة لربما تبدو ابسط واعقد من هذا..وشرحها قد يطول كما يقول الفقهاء...لكن لا بإس من تأصيل النازلة بما تختزنه الذاكرة من طرائف من شأنها أن تضيء غشيان أبراج الاستاذ رضواني بسلاسة وحذر...وهذا بيان للناس، ولا شك أنه له امثالا عاشها ابناء جيلي:
فأنا من " البنورية" ، او على الاقل، عشت طفولتي بها و " تقولبت" كما قال الصديق احمد لمسيح...وحين كان يفتح علينا الفتاح، ونحن صغار، كنا نحجز تذكرة في سينما ولد لشهب.... لنعيش الواقع والخيال ، البهجة والرعب معا...خاصة مع الافلام الرومانسيه او افلام الحركة والرعب....كان الابطال خرافيين لا يقهرون...وكنا نتماهى معهم ..الى الحد الذي قد نتعاطف معهم حتى في اخطائهم التي لا تقبل التعاطف...لكن المخرجين ،اولاد الهم . كانوا بارعين في اللعب على اعصابنا ....فهم بقدرما ما كانوا يرفعون من قوة الابطال كانوا يستدرجونهم ويستدرجوننا معهم لشباك ومآزق خطيرة ..فالبطل الذي كان يصول ويجول، وفي تقمصات مثيرة، سرعان ما يجد نفسه مكبل اليدين والرجلين ...و سكاكين الاشرار قاب قوسين أو أدنى من رقبته.... لكن. وقبل ان نكون شهودا على جريمة يعلو صوت في القاعة" واعتقوا الروح ...واعتقوا الروح" . فيصرخ الجميع...." وا عتقوا الروح" ....حينها يوقف التقني، في تواطؤ ، بَكَرة الفيلم . متضامنا في لؤم...وسط هتافات وشتائم بذيئة من هناك وهناك... ثم تستانف الحكاية، بعد ان يتم بتر جزء مهم منها، نحو مزيد من المغامرة والتشويق ..
و خارج قاعة السينما كان السي لكبير الحكواتي، بدوره، ينسج من الكلام خيوطا من حرير ...ففي كل أصيل كنا نتحلق حوله ليحكي لنا الازلية والهلالية والاميرة ذات الهمة...وغيرها...نصف الحكايات يؤلفه ويرتجله حسب المقامات...ابطاله كانت تنبت لهم اجنحة فيحلقون في السماوات...يتجاوزون بخفة كل المطبات.... حتى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون...ولأن للسي لكبير حساباته التي قد تختلف احيانا عن حسابات الراوي فإنه كان بقدرما يصعد باحد ابطاله فوق الشواهق يعود به الى اسفل سافلين فيوقعه في مصيدة لا مخرج منها .. كأن يغرسه في قعر مطمورة ويغلق عليه بفردة رحى لا يقوى على تحريكها مائة رجل...يوقف الحكي في اللحظة الحرجة...تاركا الحكاية معلقة الى الغد....لكن الجمهور المنأخذ بما يسمع لا يقبل ولا يطيق ان يبيت البطل الخارق في المطمورة...لن يجدي مع سي لكبير التضرع ولا الترجي.... إلا بعد لأي ..حينذاك يقبل فتح المفاوضات مع جمهوره . وفي الأخير لن يمتع البطل بسراح مؤقت إلا بدفع كفالة مالية يتم تحديدها بناء على تقويم موضوعي لإمكانيات الجمهور ..
وعليه...فإن قارئ" ابراج من ورق" سيعيش بلا شك هذا التارجح بين تأجيل القراءة وتعجيلها...فلئن اجًلها فهو ضامن لمتعة موعودة ومؤكدة...وإن عجلها فقد فاء بالرحيق دفعة واحدة...كلتاهما لذاذة مضمونة..لا يتعلق الأمر بمجرد لذاذة نابعة من تشويق سردي للوقائع والاحدات وإنما، هي بالأساس، متأتية بما يقدمه الكاتب من مقترحات إبداعيةحيث يقول النصُّ الواقع َ فيعيد تشكيله وفق ابعاد تجعل التخييل مرجعا والواقع تخييلا. من خلال مجموعة من الموتيفات السردية والسيميائية المحسوبة استتيقيا بعيار الذهب. إنها عوالم . من فرط واقعيتها، طافحة بالغرابة...فكل فصل يضاعف سابقة ويفتح له مسارات ممكنة ومستحيلة...إنها حيوات ممكنة ومتداخلة يشيدها الكاتب(السارد) خطوة خطوة، ولحظة لحظة، في رحلة لأمكنة الطفولة و لأصداء الاسلاف كما سيتسقطها من الروايات الشفوية ومن الرواية التي تركها والده" كتاب الزواج" مكتوبة ومات مقتولا او انتحر....السفر الحكائي سيراوح بين الدار البيضاء والبلدة القديمة، بين الحاضر والماضي،، بين الواقع والكتابة. وفيها رصد عميق للتحولات العميقة والصعبة التي عرفها تاريخ المغرب الحديث بين فترة الحماية وفترة الاستقلال..والاخطر من هذا ان الراوي، كما في سيرة يوكيو ميشيما " اعترافات قناع" لا يخفي توجسه من كونه ، وهو يعيد تشكيل سيرته وسيرة اسرته ، ينحو نحو هلاكه الاكيد..لربما على يد من يقترحون عليه بيع ضيعة الوالد التي طالها التردي او تحويل " كتاب الزواج" الى فيلم سينمائي..." وا عتقوا الروح!".
إلى حدود الصفحة 72 كل الاحتمالات غير محتملة...لكن المتعة والفائدة بلا حدود....
تاريخ النشر ::4/13/2025 9:40:28 AM
أرشيف القسم