Mobile : 00436889919948 info@kunstundstadte.com
Follow us:

الثقافة والأدب والفنون

الفنان فائق رسول ومحاولة البقاء

  الفنان فائق رسول ومحاولة البقاء



  الفنان فائق رسول ومحاولة البقاء

 إلهام عبد الهادي*


نحن أمام فنان ليس من السهل الكتابة عن أعماله الفنية وخاصة أن أعماله تتسم بالرمزية والتجريد الشديد والموضوعات تشعر أنها مختفية داخل اللوحة، إنه الفنان العراقي فائق رسول الذى عشق الرسم منذ الصغر ودرس الفن بالعراق على أيدى أساتذة كبار ورغم أن الدراسة أكاديمية جامدة لكنه أحب أن يكون له اتجاهه ورؤياه الخاصة بالفن فطرح مواضيع كثيرة مثيرة للجدل ، فلقد عاش فترة عصيبة بالعراق حيث كان كثير التنقل ولا يملك مرسما ودفعته الاضطرابات التي تعانى منها العراق إلى الابتعاد عن السياسة فبدأ يفكر كإنسان يدافع عن نفسه وحياته فبدأ بالقراءة وبلغات عدة لأنه يعتبرها من مفاتيح البقاء بجانب الرسم

فرؤية الفنان فائق رسول المحملة بآثار الحياة العصيبة نتاج الحروب تختلف عن رؤية الإنسان العادي الذي عاش حياة طبيعية ورغم أنه اشتغل بالتشخيص فترة إلا أنه اختفي مع الوقت قسرا

وهو فنان مقيم في فيينا حاليا وعمل هناك لمدة عشرين عاما مديرا لجاليري ورغم علاقاته الكثيرة إلا أنه يعشق العزلة ويسمع الموسيقي ويشتغل بالرسم، وتميزت أعماله بالأبيض والأسود تتخللها أحيانا كتابات ما هي إلا رموزا تعكس رسائله للعالم . وكما تعلمنا فيزيائيا يعد اللون الأبيض واللون الأسود متضادان لأن اللون الأسود يمتص كل الموجات الضوئية ولا يعكسها بينما اللون الأبيض يمتص الموجات الضوئية ويعكسها كاملة فتتمكن العين من رؤيته ربما اختار فائق رسول هذان المتضادان ليصنع عالم ساحر من الألم تارة ومن الأمل في الحياة تارة أخري

وعندما ذهب فائق رسول إلى فيينا لم يك هروبا من الوطن بقدر ما هو شعور بالحسرة فلا أحد يختار حياة خارج الحدود التي يولد بها، ويقول الفنان" يقول مظفر النواب: أن كل إنسان يعتز بمكان مولده" ولكنه تركه لأنه ليس أمامه خيار آخر وفائق رسول يعج بالإلام والفراق لكنه يشعر أنه لا يملك وطنا من وجهة نظره فالوطن هو الذى يحتوى الإنسان وهذا الاحتواء لم يجده فى المكان الذى ولد فيه فقد عاش طفولة منقوصة وأحلامه وهو طفل تشوهت بفعل الحروب إلا أن الطفل الذى بداخلة لم يكبر كثيرا فله رؤياه الخاصة حيث يري العالم بشكل آخر ووجهة نظر مغايرة عن وجهات الآخرين

وقد وهبته فيينا مساحة كبيرة من الحرية والثقافات فبدأ يعبر عن شغله بدون تخطيط وتأثر بموضوع الجدار والأثر.. الذى يتركه الإنسان على الجدار من ممارسات مثل الكتابات والتي تخللت أعماله حتى عام 2017م ، فالعمل عنده نوع من الريليف كما كان في مصر القديمة حيث تلك التجربة الرائعة عن فن الريليف في مصر القديمة، وأعماله كبيره المساحات وتنفذ على القماش ويستخدم مواد مثل الرمل بشكل تقني وقليل من الألوان وعندما يجف العمل يثبته بمواد خاصة وحتى يأخذ أثر الجدار القديم على الطبيعة يسكب بعض الألوان البسيطة على العمل ويمسح ليبقى أثرا بسيطا كأثر المطر ثم يستخدم القلم الرصاص والمثبتات

أعماله تعكس رسالته المدهشة شكلا ومضمونا، فتعكس كم هو إنسان يحلم بالجمال ويتمنى عالما هادئا من خلال اللون الأبيض، ومن جانب أخر يكشف لنا الوجه القبيح للعالم باستخدام اللون الأسود فكل الحروب ليست عادلة مهما كانت ، ربما يريد أن يقول أن هناك طرقا أفضل غير الحروب لفض الاختلافات والخلافات حيث تحولت أعماله منذ عام 2017م إلى مرحلة جديدة بشكل غريب نحو كتل السواد فاللون الأسود لون صعب وأن يقرر الفنان الاستغناء عن الألوان ويتمسك بلون واحد به شيء من الصعوبة والبراعة تدفعنا لحالة من الدهشة

وتجبرنا لوحاته على تذكيرنا كيف حصدت الحرب العالمية الثانية 80 مليون إنسان عبر حرب قاسية وفيها قسوة زائدة ، فائق رسول أراد أن يصرخ عبر متضاداته في وجه المتلقي أن المسببين للحروب أناس مختلين وربما هم أناس مختلفين لا ينتمون للبشر فهو يحب المكان الذى ولد فيه لكن هناك سؤالا يطرح نفسه ماذا أعطاه هذا المكان؟ فهو لم يعطه سوى شهادة ميلاد لحقتها قسوة وحروب دمرت الحياة والبشر

وإذا تعمقنا في دلالة اللون الأسود والأبيض في اعماله نجد أعماله تصرخ رغم غموضها لنعيش حياتنا لأن الموت هو نهايتنا ولن يبقى لنا سوى الأثر

فللوهلة الأولى عندما يذكر اللون الأسود تتجه أنظارنا لغياب الضوء لأن بغيابة يصبح المحيط أسودا والأسود هنا يحمل دلالات عدة تحت مفهوم الغياب مثل الحزن والموت والظلم والشر والغموض والقسوة والتهديد بأنواعه فيأتي مكروها لأنه يعكس الوجه السلبى لدلالته لبعض المتلقيين للعمل، ومن جانب أخر يرتبط عند بعضهم بالقوة كما يرمز للأناقة باعتباره ملكا على الألوان

ولم يتناول فائق رسول اللون الأسود باحثا عن إظهار الحزن بقدر ما قصد إظهار الرغبة في الوصول للمثالية بالعالم المشتعل بالحروب والكراهية، رغم أنه لم يخف مشاعره الثائرة على الحزن والموت أو فورته على أصدقاء الكراهية الذين شتتوا العالم وأوقعوه في بئر الحروب التي لا تكف عن الولادة

وهو دائما يطرح موضوع القلق والعنف والعبث في جزء من أعماله فالفنان يعانى من التعبير لأنه لا يعرف أن يتكلم فيعبر في صمت من خلال عمله الفني في محاولة منه أن يصرخ بما يجول بدواخله فلوحاته كلمات مرسومه وصوت تقاسمه الظل والنور في إبداع شديد دون ملل

فالفن في حد ذاته عبارة عن مشكلة والفن أيضا تعبير وأحيانا يكون بعض الكلام صعبا فنلجأ للتعبير في صمت عن حالة موجودة في الرواية البشرية فنبدأ بالرسم والتعبير كطفل صغير فالطفل الوحيد هو من يملك حرية هائلة نفقدها كلما كبرنا فالطفل تفكيره حر غير موجه فالأسئلة أيضا تكون غير موجهة فهو يقول أنه يعانى من مشاكل في النوم بسبب الحروب حتى الآن وهو كفنان يعتبر الرسم نوع من الإنقاذ للطفولة الغير سعيدة التي يعيشها

ولقد تأثر بأفلام يوسف شاهين الابن الضال في مشهد يمسك أحد أبطاله صورة لأيام الدراسة فيسأل عن الأشخاص الموجودين بالصورة وكلما سأل عن شخص منهم يأتي الرد...."بأنه مات  في الحرب" جميعهم مات في الحرب

فعندما تقف أمام عمل من أعماله تشعر وكأن حرارتك مرتفعة ، وربما يصيبك الهذيان فترى أشياء غير طبيعية داخل العمل وهى الحرب فتتساءل كيف يمكن للفنان أن يعبر عن الحرب هل يرسمها بألوان جميلة كيف يعبر عن الكارثة التي يعيشها الإنسان في الشرق في مصر والعراق وسوريا وايران وغيرها؟ فهو يعبر عن العبث الذى صنعته كراهية الإنسان لأخيه الإنسان فأعماله صدامية تحكى مآسي عاشها الفنان ورغم استقراره في فيينا إلا أنه يحمل الهموم والتي من الصعب التخلص منها لبشاعتها وأثرها فأنت عندما تقف أمام عمله تكون قد وقفت أمام عملا صداميا يحكى مأساة عاشها الفنان ويريد بأسلوبه أن يفضح هذا العالم الذى لم يجعله يعيش بالشكل الصحيح فهو مثله مثل أي فنان كان يتمنى أن يرسم الورد والطبيعة ولكن حياته تلك لم تك من اختياره

ولا يزعجنا أسلوبه المختلف فكما نعلم أن الفن تغير تماما بعد الحرب العالمية الثانية أوروبا تدمرت والمانيا النازية ومات عدد هائل من النساء والأطفال والعجائز واغتصبت النساء بشكل قاس فبدأت تدب تغييرات هائلة بكل مجالات الحياة وبالفن خاصة فصارت هناك العديد من التساؤلات الغامضة بعد الحرب

لذا اندهش بعمق أمام لوحاته التي رسمها بأقلام الرصاص صانعا فجوات ودوائر وهالات عظيمة من اللون الأسود تسبح في سماء بيضاء تارة وتارة أخرى نجد خطا أبيضا كالبرق اخترق لوحة حالكة السواد ليضعنا أمام أعمال تسحرنا بغموضها وتثير فينا كمتلقين للعمل اللانهائي من التساؤلات

فسواء رسم فائق رسول تراجيدي أو مأساوي من وجهة نظر المتلقين فالعمل عنده يختلف عن عمل يحوى فتاة تعزف على العود مثلا أو منظرا طبيعيا خلابا كأنه يقول لهم ارتكوني اسمحوا لي أن أرسم

واللون الأسود الذى يرمز للحزن من وجهة نظر المتلقي ما هو إلا سؤال كبير فهو كفنان لا يعرف إذا كان هناك حلولا أم لا لهذا الخراب الذى تخلفه الحروب بأشكالها وأنواعها وإنما هو كفنان مجرد طارح للأسئلة

 

*كاتبة مصرية/ القاهرة

 

تاريخ النشر ::2/25/2023 5:15:22 AM

أرشيف القسم

صفحاتنا على مواقع السوشيال ميديا