Mobile : 00436889919948 info@kunstundstadte.com
Follow us:

بوابة دمشق

تقنيات السرد الحداثي في رواية ' نَزَّاز' للروائي السوري ' طلال مرتضى'

تقنيات  السرد الحداثي  في رواية ' نَزَّاز'  للروائي  السوري ' طلال مرتضى'

تقنيات السرد الحداثي في رواية ' نَزَّاز' السوري طلال مرتضى خديجة مسروق* كان للحداثة الغربية أثرها البالغ على المشهد الأدبي في الوطن العربي , و ظهر هذا التأثير على مختلف الأجناس الأدبية . و كان للرواية نصيبها من هذا التأثير , بما أنها أصبحت الجنس الأدبي الأكثر جذبا للقراء .
 قام الروائيون العرب بتجديد و تحديث مقومات السرد مواكبة للإتجاه الأدبي التجديدي الذي يعبر عن توجهات القاريء المعاصر .. فارس هو ذاك الروائي الذي يمتطي صهوة الكتابة , يجيد التحكم في أصرمة السرد يحلق في فضاء اللغة , يتخير أبهى حروفها ليؤثث بها أركان نصه الإبداعي .

 الروائي السوري ' طلال مرتضى ' كان فارسا مغوارا حين قرر امتطاء صهوة السرد ليبدع للقراء نصا روائيا متفردا . سنتناول روايته الموسومة بـ ' نَزَّاز ' التي تعرض فيها و بكل جرأة لمجموعة من الموضوعات الساخنة التي باتت في دائرة المحظور و عالم المسكوت عنه في العرف الأدبي, معتمدا في ذلك على مجموعة من التقنيات السردية الحداثية. و لأن الأدب يتغذى من الأزمات ,فهي التي تحرك سكون الأقلام و تدفع الكتَّاب للإبداع . كان للأزمة السورية صداها على القلوب و العقول . و كان الأديب العربي حاضرا لرصد أحداث تلك الأزمة و تصوير وقائع الحرب على سوريا . للروائي ' طلال مرتضى ' حضوره المميز باعتباره سوري عاش وقائع الأزمة , ركز في روايته على آثار الحرب و تأثيرها على الإنسان السوري . يملك مخيلة لا تنضب تسمح له بإغراق المشهد الإبداعي بأجود النصوص الروائية . في أربع مائة و خمس و ستين صفحة كانت رواية ' نزَّاز ' الصادرة العام 2018 قام فيها بترويض اللغة لصالح الألفاظ , فجاءت طيّعة تخدم السرد فتدفق عذوبة ليروي ظمأ القاريء وهو في قمة عطشه المعرفي . ' نزَّاز' عنوان الرواية . و' النزاّز ' مصدر و الفعل 'نَزَّ' و ' النَّز'في معاجم اللغة ماء مالح يسيل من تحت الأرض . و يقال ' نزَّزَت الظبية ولدها أي ربته طفلا .

 قد يقصد بالعنوان الأرض النَّزَّازَة التي لا تنتج إلا الملح و أرض ' خان السنابل ' التي تدور فيها أغلب أحداث الرواية كانت كذلك , و قد يكون ' نزَّاز ' اشتق من الفعل ' نزَّزَ' و يقصد به ذاك الطفل و هو بطل الرواية الذي افتقد لحضن أمه التي ماتت فحضنته ' ريم ' صغيرا .. مجموعة من العوالم الحكائية يدعو الروائي إليها قراءه عبر منجزه السردي , يجمع فيها بين عدة متناقضات , الجدي و الساخر و الواقعي و المتخيل و الكلاسيكي و الحديث . أدى الروائي ' طلال مرتضى ' في ' نزَّاز' دور الناقد و الإعلامي و المؤرخ و الراوي العليم و الراوي الضمني ' الرقيب ' .. تعمد إخفاء مقصديته من النص في كثير من المشاهد بالمواراة خلف مجموعة من الدلالات السردية المفتوحة على التأويل , و ذلك لإشراك القاريء في عملية إنتاج النص , فهو وحده الذي يضع له النهايات .. يمكننا تقسيم الرواية إلى فصلين . الفصل الأول متعلق بطفولة بطل الرواية ' ساهر ' الذي عرف كل أنواع العذاب مع أب ظالم و زوجة أب لا تعرف الرحمة . و الفصل الثاني خصصه الروائي لرحلة بطله , الذي قرر بعد معاناته تلك الفرار من جحيم أسرته ونار الحرب . اشتغل الروائي في نصه على بعض تقنيات التعبير النفسي , كالاسترجاع و الإحتفاء بالماضي و المونواوج , باعتبار أن الرواية تتحدث عن الإنكسارات و و المآسي و الحروب و أثرذلك على شخصيات النص . بلدة بطل الرواية اسمها ' خان السنابل ' إحدى القرى السورية أخذت اسمها من البلدة الأولى التي كان اسمها هي الأخرى ' خان السنابل '. عاش سكانها في رغد العيش لما تنتجه من غلال وفيرة . بين بكرة و ضحاها تتحول إلى أرض قاحلة تنزُّ بالملح , و تسربت تلك الملوحة إلى المنازل لتنُزَّ في أساساتها .و حولت تلك السكنات إلى آثار على شكل مغاور تعرضت للنهب من طرف مهربي الآثار .. يسلّم سكان ' خان السنابل ' بمقولة إحدى العرافات التي أخبرتهم بأن بلدتتهم حل عليها غضب الله و ستعيش لعنة أبدية . الإقطاع المستبد و الحكم الظالم و الجوع الكافر و الحرب المشؤومة , و لا خيار لهؤلاء السكان سوى اتنتظار الموت على أرضهم أو الموت غرقا في وحل الغربة . ' ساهر ' بطل الرواية , يتيم ماتت أمه و هو صغير. لم يشعر يوما بأية عاطفة نحووالده , يناديه دائما بـ ' السيد ' ' السيد ' كان كل يوم يشبع ابنه 'ساهر' ضربا مبرحا , لتأخره في النهوض فجرا لأداء الصلاة . يخاطب والده بتلقائية ' بما أنك نصبت نفسك حارسا للرب كان عليك أن تخبرني بأن الرب رحمان رحيم , و ليس فقط شديد العقاب ' الرواية ص 73. ببراءة الأطفال لم يستوعب ' ساهر ' فكرة موت أمه , و كيف اختاره الله من بين بقية رفقائه ليعيش يتيما ' أود طرح سؤال على ربي , ألست عبدك , ألست من تلقيت لأجل حلالك و حرامك آلاف الجلدات ظلما ؟ لماذا لم تترك لي أمي مثل باقي أبناء القرية ؟ ' الرواية ص 74, تمنى لو كانت أمه موجودة حتى تهدهد قروحه و جراحاته التي كانت تتركها ضربات ' السيد ' على جلده الطري .رسالة بريئة إلى ربه الذي أخذ أمه إلى جواره , و رسالة حسرة و عتاب إلى أب لم يعرف قيمة البنوة . إنه يسلم بسلطته عليه لكنه تمنى لو أن هذه السلطة استعملها أيضا مع زوجته التي كانت تتترك طفله جائعا من الصباح إلى المساء دون رحمة . يتجرع ' ساهر ' كل يوم المرارة بالألوان . لم يعد يشعربالوجع و لا بالجوع و لا حتى بالإنتماء .. ' ريم ' أبرز الشخضيات النسوية في الرواية . بين ' ريم' و ' ساهر ' أكبر من حكاية . 'ريم ' بالنسبة لـ ' ساهر ' تمثل الأم و الحبيبة و العشيقة . سيدة عشرينية لا يزورها زوجها إلا في العطل بحكم عمله خارج البلدة .' ساهر ' كلفه والده ــ الذي كان مسؤولا عنها في غياب زوجهاــ بخدمتها و القيام بشؤونها وتلبية طلباتها كالتسوق لاقتناء ماتحتاجه وأيضا حراسة منزلها ليلا . ' ريم ' كانت تغدق عليه بمالها , تمارس عليه غوايتها كأنثى و تمده بعطفها كأم .تجتاح كل أوردته , تنتشله من الضياع . كان تعده صغيرها الذي تضع بيده كل الممكنات حين تلقمه ثديها لتمده بالحياة , و هي تعرف بأن هذا الطفل لم يذق طعم حليب أمه. ' ريم ' كانت بمثابة الأم الثانية لـ ' ساهر ' , ' لكنها فطرة العقد و الفطام , من يمنع المفطوم من الوصول إلى سهل صدر أمه العامر بسغب الحليب ' الرواية ص 142 ... ' ساهر ' يقرر الرحيل, لينجو بجلده من سلطة أب متعجرف , من زوجة أب مستبدة , من قهر بلدة حلَّت عليها اللعنة . ' خان السنابل ' مثقلة بالمآسي .آلة الحرب بها تحصد الأرواح كل يوم بأعداد كبيرة . تشرد الكثير و مات الكثير . و البقاء فيها يعني الموت المؤكد . الأوطان تتألم لرحيل أبنائها , والحروب وحدها تغير جغرافيا العالم . إنها الحرب تعزّ من تشاء و تذل من تشاء ,و البقاء فيها للأقوى .. ' ساهر ' يرحل إلى المجهول ... سلسلة من المحطات يجتازها بحثا عن أرض يعرف فيها طعم الحياة . من حلب إلى دمشق الحضارة التي ظلت شامخة أمام عصف التاريخ ,إلى بيروت الانفتاح و تنوع المعارف . بيروت بالنسبة لـ 'طلال مرتضى ' هي المدينة التي علمته الحلم و فتنة الحرف . احتضنته شريدا و كبرت معه و به .. أوربا الحلم .. الجنة التي كان يقرأ عنها ' ساهر ' في الكتب وآمن بوجودها . فكانت وجهته خلف الضفة. من تركيا إلى بلاد اليونان حيث وجد الحفاوة الكبيرة , وكأن أفلاطون ترك وصية لشعبه بإكرام الضيف العربي الذي كان وفيا لفلسفته منذ التاريخ . من أثينا إلى صربيا إلى هنغاريا ثم بودابست ,إلى ألمانيا و محطته الأخيرة كانت النمسا . رحلة البطل كانت صعبة و شاقة كغيره من اللاجئين الذين لا يملكون وثائق تثبت هوياتهم . فكانوا يتنقولون عبر الغابات و المسالك الوعرة حتى لا يقعون في قبضة حراس الحدود الذين تضعهم كل دولة لحفظ أمنها من أي خطر داهم قد يأتيها من الخارج . و الذين حتما سيعيدونهم من حيث أتوا أو يزجون بهم بهم في السجون . أوربا وقف على حقيقتها ' ساهر ' واكتشف بأنها مجرد كذبة . فقد أعلنت إفلاسها مثله تماما و لم تعد تلك الجنة التي تتحدث عنها المرويات و الكتب . أوربا بجمالها و بثقافتها و بحضارتها خدمت العالم لكنها قتلت الإنسان . في منتهى الغربة البارد يشعر 'ساهر ' بالضياع و التشتت . 'أكبر مقاطعة في النمسا لا يوجد فيها كتاب عربي ' الرواية ص 106. المكتبات فيها تتسع لاحتضان كل الكتب و الكتاب من كل دول العالم , إلا بما يتعلق بالعرب و بالعربية . و ماذا كان ينتظر ' طلال مرتضى' من الغرب غير ذلك ؟.. يجد الروئي تشابها كبيرا بين معمار ' فيينا ' ــ عاصمة ' النمسا ــ و دمشق ,إلا أن دمشق أطول عمرا منها , كما تشبه بيروت في تعدد الأعراق و الديانات و اللغات , وهذا ما يؤنس وحشته في غربته القاتلة .. الرواية عند 'طلال مرتضى ' معصية يمارس فيها كل عنجهيات الكتابة . الكتابة عنده غواية و الكاتب الحيد هو صاحب القلم الجريء الذي يكتب عن كل شيء . الذي يقول الحقيقة بكل ألوانها . فهل كان ' طلال مرتضى ' في روايته هذه شفافا واضحا في قول الحقيقة , كل الحقيقة ؟ بطل الرواية ' ساهر ' كان نفسه الروائي ' طلال مرتضى ' . كان يتوحد معه في بعض المشاهد و ينفصل عنه في مشاهد أخرى ليوهم القاريء بأنه لا علاقة له به و لا سلطان عليه . كان الروائي يتنصل من لعبة السرد و يتبرأ من بطله , مع انه اعترف أكثر من مرة في النص بأن شخصية ' ساهر' تمثله , و انه هو رب الحكاية و مسيّرها . كما وضع الروائي شخصية ضمنية مرافقة للبطل , هي الحارس الضمني أو الراوي الضمني أوكل له مهمة الرقيب الذي يمارس سلطته على الروائي و على البطل إذا تجاوزا حدود السرد المتعارف عليها , بمنعهما من اقتحام بعض الموضوعات المحرمة اجتماعيا وديينا و سياسيا و تجنب تسمية الأسماء بأسمائها الحقيقية .. تتحدث الرواية عن سلطة النقد و مقص الرقيب , و الكاتب الحذق هو الذي يمرر مضمراته بذكاء لذهن القاريء , وهو وحده الذي يملك زمام الحكاية . ' نزَّاز ' تحرر فيها الروائي من النمطية . حيث استعان بكوكتيل متنوع من الآليات التي باتت ضرورية في النص الروائي الحداثي . و كما يعلم جميعنا أن النص الحداثي يستمد وجوده و كيانه من غيره من الأجناس و الأنواع الأدبية و استحضار بعض التقنيات السردية التقليدية بعد أن يبعث فيها الروائي روح التجديد و التحديث . احتفت الرواية بالشعر و بالقصة و استحضار التاريخ و الخرافة , إضافة إلى اشتغالها على فن المقال و السيرة الذاتية , كما كان للأغنية المحلية الشامية وجودها المميز داخل النص, و كل هذه الأشياء تعد تقنيات يستلزمها النص الحداثي .. ' المُلاَّ' إحدى شخصيات الرواية . وظيفته الإجتماعية داخل الرواية إمام مسجد بلدة ' خان السنابل ' يستشيره الناس في أمورهم الدينية . يؤمهم في الصلوات الخمس و في صلوات الجنائز و الاستسقاء . لكن في كل صلاة استسقاء كانت الأرض تزداد نزَّا و ملوحة و السماء تجود بمائها على القرى المجاورة دون ' خان السنابل ' .إلى أن اكتشف أهل البلدة أن ' المُلاَّ ' لم يكن سوى ضابطا في المخابرات الاسرائيلية تخفى بزي شيخ , و أصبح خطيبا عليهم .إنها اللعنة التي تنبأت بها العرافة تحل على البلدة و أهلها .. سلطة المكان تجبر الفرد على البقاء و بالحب وحده تضمن الشعوب وحدتها . و الثورة الحقيقية ليست بالسلاح بل بالفكر و الوعي هكذا يراها الروائي ' طلال مرتضى ' .. الروائي مستاء مما وصلت إليه القصيدة العربية من انحدار بسبب العابثين بالشعر ' و الحبر إن الشعر لفي قهر ' الرواية ص 10 . كما يبدي تحسره على وضعية الكتابة عموما و التناقض الذي عرف به الرقيب أو حارس النصوص الذي يطالبه بتعرية الحقيقة لكنه في الوقت نفسه يقف بالمرصاد في وجه المبدع و الإبداع مشرعا مقصه لبتر كل ما يتعارض مع مصالحه . يتبع الروائي أسلوب السخرية في نقده لبعض المعتقدات السائدة عند العرب و طرق التدين التي لا علاقة لها بالدين . الذاكرة المثقلة بالمآسي هي التي يمكن لها أن تبدع , فالإبداع يولد من رحم المعاناة . و هناك كتَّاب خُلقت الكتابة لأجلهم . الروائي ' طلال مرتضى ' أحد هؤلاء لذلك يحق لقلمه ممارسة غوايته مع الرواية , في زمن عدَّت فيه الكتابة معصية التائب منها كمن لا ذنب له .. الوصف في الرواية فاق الوصف و لا أعتقد أن هناك روائي عربي حداثي يضاهي الروائي ' طلال مرتضى ' في ذلك . كل حدث في الرواية يخصه بالوصف الذي يتلاءم مع مشهديته بدقة , مثل ذلك الرسام المبدع الذي يتفنن في رسم جسد امرأة يستعمل الألوان و الخطوط بإحكام , فتظهر للناظر حنجرتها و كأنها قطعة عاج صافية , و مفاز سرّتها بئر غارق بنشيج العطش لنهنهات الشبق .. الروائي متهم بشاعرية عالية تفوق التصور . ما يعاب على النص التعمق الكبير في التفاصيل االدقيقة جدا , و هو أمر قد يراه الروائي يخدم العمل و لكنه في الواقع يرهق القاريء و يجعله يصاب بالملل و قد يرمي الرواية من قراءته للصفحات الأولى , ومن ذلك نأخذ مثالا ' عند وصول نقطة الحدود غابت كرة الأرض كلها في ظلام دامس يكدّر صفو هجعتها أضواء السيارات العابرة بين الفينة و الأخرى , هذا ما يجعل الطقس متنبها و متوترا حيث يتلمس المرء هذا من تقلب مزاجيته التي تتبدل بين اللحظة و الأخرى , مرة مطر و أخرى عصف و تالية نوبات من الرعد و البرق المفزعة ' الرواية ص 219 . كان بالإمكان التخلي عن هذا المقطع أو إختصاره في سطر واحد ومنه الكثير . احتفت الرواية بالعمران الدمشقي و باللهجة السورية و الشعر الشعبي الشامي و بالجمال الحلبي . كل هذا التنوع انسكب من روح روائي سوري مغترب فاض حبره عطرا لا يوازيه إلا عطر الشام الحاني .. ' طلال مرتضى ' كان صلب الحكاية و جوهرها .. فهل ' نَزَّاز' سيرة ذاتية للروائي , أم سيرة شعب ,أم سيرة وطن ؟ كاتبة جزائرية

تاريخ النشر ::11/16/2022 2:51:23 PM

أرشيف القسم

صفحاتنا على مواقع السوشيال ميديا