"بخور الغريبة".. محاولة للتخفف من أوزار الماضي!!..
"بخور الغريبة".. محاولة للتخفف من
أوزار الماضي!!..
طلال مرتضى*
اللغة وحدها لم تسعف إياد حسن السوري في محاولة الهروب
أماماً للتملص من إلقاء مفاتيح مرويته "بخور الغريبة" بيد القارئ العارف
المستشرف ومنذ السطور الأولى إلى ما ستؤول إليه قفلة الحكاية التي ارتكبها.
ثمة لغة مشذبة مشغولة بشكل رشيق لتؤدي غرضها السامي، وهو
ما نطلق عليه عملية ربط القارئ كميثاق للوصول إلى النهاية لاستشفاف كل تداعيات
الحقيقة الكلية التي أراد حسن إيصالها لنا، فصفحات بخور الغربية الأولى والتي أتكأ
الكاتب على المعمار اللغوي من خلالها لتمرير بعض الخيوط، كجرعات قرائية زائدة لربط
القارئ، أتت كسلاح ذو حدين، وتلك مغامرة يرتكبها معظم كتاب الرواية وهدفها وبشكل
مسبق معلوم وهو اصطياد القارئ، عند الكشف أو أفشاء أسرار الرواية القادمة على لسان
إحدى شخصياتها أو يقوم هو بهذا الدور لكونه الكاتب الكلي القدرة (الراوي الضمني)
على منجزه، ففي هذه النقطة بالذات يصبح دور الكاتب دور المتفرج، من حيث إن كثير من
القراء يدركون فخ الكاتب، فيعرضون عن إتمام القراءة، فيبقى رصيد حضور الكاتب مرتهن
للفئة التي تقرأ من أجل القراءة وهم فئة قليلة..
القارئ العليم شغوف بالكاتب الذي يجعله شريكا لا تابعا،
وهذا من باب الاكتشاف.
"بخور الغربية" ولدت من لدن مئات المرويات
التي تقاسمنا معا زاد قراءتها خلال السنوات الأخيرة والتي لبست كلها جلبابا واحداً
من حيث التفصيل (قصص حرب البلاد) ولكن بألوان مختلفة، فاللون الذي أسدله إياد حسن
على مرويته "بخور الغريبة" لا يشبه اللون الذي ألبسه طلال مرتضى لمرويته
"نزاز" لكن لو قاربنا فصال كلتا المرويتين مع مرويات أخرى لوجدناه على
ذات المقاس، وتلك ليست بمثربة، لأن كل كاتب يستطيع أن يتناول ذات الحدث من زاوية
يراها هي الأنسب، وهذا ما يحصل في المنتج الأدبي المتعلق بمحيطنا الذي يكابد ويلات
الحرب والفرقة.
يتكأ حدث الرواية على النمط السيري لبطلته
"بهجة" وبهجة هذه هي صورة عن بهجات كثيرات نجدهن في كل بيت سوري أو هي
الصورة الطبق الأصل عما مرته به كل العوائل السورية على حط الحرب الدائرة، وحدها
اسم بهجة في هذه الرواية يستطيع القارئ أن يبني عليه مفارقات أو حتى تهكمات ينادد
بها سطوة الحرب، فحياة بهجة ومنذ الولادة إلى ساعة صدور هذه المروية تبدو كسكة
قطار ممتدة طويلا ولكنها باتجاه واحد وغالبا ما يكون ممل، وهو ما يطرح السؤال
المقيت، أين تكمن البهجة في حياة بهجة؟ فهي ولدت فقيرة وترعرعت فقيرة ولفظتها حرب
البلاد ذليلة وفقيرة نحو المجهول اللعين
كمروية أولى للكاتب إياد حسن أشي بأنها تستحق القراءة من
باب أنها اعتمدت في معمارية حدثها، التوثيق، فهي وثقت كثير من الأماكن وكثير من وجوه
الشخوص الذي عبروا حياتنا أثناء سنوات الحرب بخيرهم وشرهم، بثباتهم وتبدلهم.
حاول الحسن جاهداً إخراجها من لبوس المروية التقريرية،
كي تتبدى عملاً أدبيا خالصا، من خلال ذهابه في كثير من المواضع للغة الشعرية،
المنطوقة على ألسنة الشخوص أو عن طريق ماكينة السرد، لكننا نعرف ككتاب إن النجاح
في هذه الفعالية موصوم دائما بالفشل، لكون اللعب على أوتار اللغة لتسليط الضوء على
حدث حقيقي، يغير من ملامح هذا الحدث ولا يجعله قابل للتوثيق.
اعتمد الكاتب في طرح حدث مرويته على فعالية التناوب
السردي، وهذه الفعالية تقوم على تقسيم الحدث إلى خطين متوازيين يسيران معا باتجاه
قفلة النهاية، وبمعنى أعم ينطبق هذا على المرويات التي تعتمد على قصة واحدة كقصة
بهجة، التي وقعت الحرب فوق رأسها فقررت الهروب الذي انتهى بها كلاجئة في أوروبا،
فالتناوب هنا يكون بالحديث عن خطوة الهروب الأولى وتفاصيلها، ولأن الكاتب لا يعرف
إلى ماذا سيؤول النقطة التالية، يعود للبحث عن ماضي بهجة وهو ما يمنحه فرصة ليبدأ
من حيث الخطوة التي وصلتها بهجة في مسيرها..
طريق بهجة نحو الخلاص شائقا بكل ما تعنيه الكلمة، ففي كل
متر منه حكاية فادحة، من المؤسف أن الكاتب قطع خط المسير من لبنان نحو سورية نحو
تركية نحو دول أخرى، مثل طائر عابر وببضع صفحات ليتوقف وبشكل متعب عند حدود
هنغاريا، حيث صار الكلام مكرور من حيث أن البطلة تدور في حلقة مفرغة، وهو ما
استنزف الحدث بالمنولوج، وهذا طبيعي بعد خروج بهجة من سرب الفاتحين الجدد للقارة
العجوز.
كخلاصة نحو الخاتمة أشي بأن إياد حسن استطاع جري إلى
نقطة النهاية وأنا بكامل إرادتي، من باب أنني اعرف تفاصيل الطريق الذي ارتكبته
بهجة، لست أدري هل وصولي إلى فصل النهاية المفتوحة محاولة لاسترجاع ذكريات الوجع
أم إنني اردت معرفة، إذ ما استطاع إياد حسن وضع نقطع علام إضافية على طريق الموت.
*كاتب سوري/ فيينا.
تاريخ النشر ::5/15/2024 10:02:50 PM
أرشيف القسم