ق.ق. وداعـا

ق.ق. وداعـا

 وداعاً
ق.ق: لطيفة محمد حسيب القاضي 
عقدت نادية يديها فوق الطاولة، ودبت البهجة في صدرها. بدأت بهجة صغيرة تواثبت في قلبها مثل كرة مطاطية، ثم أضحت أعرض وأكبر، تدفقت كالأمواج المتقاذفة. عندما علمت بقدوم فريد غدًا الساعة الثامنة ليلاً من النرويج، فريد الزوج الحبيب الغائب عنها منذ عامين، الذي لطالما حلمت بقدومه. اليوم فقط، سيحل عليها حاملاً حبه وشوقه وحنينه إليها.

وقفت نادية بفارغ الصبر في صالة المطار، تنظر حول المدخل الرئيسي منتظرةً وصول فريد بعد رحلة طويلة من الغياب. كانت تشتاق إليه بشدة، وتنتظر اللحظة التي ستلقاه فيها بحفاوة واحتضان دافئ. وأخيرًا، ظهر فريد يسير في الممر، وعيناه متجهتان للأمام، دون أن تلتقي بعين نادية.

طفرت الدموع من عينيها عندما رأته في الطريق للخروج من المطار، مع حقيبته الكبيرة البنية اللون، يجرها خلفه ويمشي بكل هدوء. وصل إليها وقال: "مرحبا"، دون محاولة منه للاقتراب منها أو حتى النظر في عينيها. سلم فريد على نادية ببرودة وجفاء عارم. عجبت نادية من برودة اللقاء، وارتبكت وشعرت بخيبة أمل كبيرة لم تتوقع هذا الاستقبال البارد على الإطلاق.

أجابت عليه بنفس البرود: "مرحبا"، وتوجها إلى السيارة بصمت.

ساحت الأفكار في رأسها، فأصبحت تفكر في كل شيء: في لمحة من حياتها قبل سفر فريد، في الحب الكبير، في اللقاء الذي يخلو من أي مشاعر. فكرت وقلبها يعصره التعجب، فوجدت أن كل شيء سيكون أروع، وقريبًا سيحل الربيع في حياتها. لربما هو متعب من طول رحلة السفر.

أدلف كلا من فريد ونادية السيارة للذهاب إلى البيت. وهي تقود سيارتها شعرت بشيء غريب، مريب لم تألفه. لم يكن هذا فريد الذي أحبته ببرودة مشاعره. ثمة شيء غريب.

- كيفك حبيبي؟
- بخير.
- كيف كانت الرحلة؟
- متعبة الحقيقة.
- الحمد لله على سلامتك.

كانت تلوذ بالصمت أحيانًا، وحتى حين نزل فريد من السيارة لم يتفوه بكلمة. 

صمت، صمت. كانت تعلم أن الصمت في أوقات كثيرة يعني الخذلان؛ هذا هو الخنجر المسموم الذي يغرز في صدر من ينتظر الكلمة.

في تلك الليلة، لم تغمض عينيها نادية، وأخذت تفكر: ما الذي حدث لفريد؟ شعرت بالحزن والإحباط، ولم تتوقع أن يكون اللقاء الذي انتظرته طويلاً بهذا البرود والعقم. جالت الأفكار السيئة في رأسها. أين فريد الذي كان مفعمًا بالحيوية والنشاط؟ لم تتخيل يومًا كيف يمكن لذلك الذي ملأ الشغف قلبه أن يتحول إلى كائن غير مرئي بالنسبة لنفسه.

جلست على الكرسي المتحرك، تفكر في حياتها التي أضحت بلا ملامح، تلك الساعات الرتيبة التي تمر ببطء في المساء. 

تنهدت نادية وتناولت رشفات من الماء. عضت على شفتيها وضاعت في أفكارها.

في تلك اللحظة، كان فريد مستغرقًا في النوم.

ليل طويل وساعات لم تنته من الحيرة. تلك الساعات المجزأة تكفي لتأليف ذكرى كاملة.

- هل بإمكاننا العودة إلى الماضي؟

انبلج الفجر وهي مستغرقة بالتفكير الذي حام في أرجاء الغرفة.

استبد بها الحزن والحيرة، واجتاحتها رغبة جامحة في البكاء والصراخ.

أشرقت عليها الشمس كأنما تطل في مرآة.

ها هي تتذكر لحظة اللقاء.

لا أدري لماذا تغير زوجي عليَّ بهذه الطريقة؟ هل هناك شيء لا أعرفه؟ هل فعلت شيئًا خاطئًا أثناء غيابه؟ أم أن هناك مشكلة ما ضايقته أثناء الرحلة؟ لا أستطيع فهم هذا التغيير المفاجئ في سلوكه تجاهي.

كنت أتوقع عكس ذلك، بأن نقضي وقتًا ممتعًا معًا، نتحدث ونضحك، ونعبر عن مشاعرنا تجاه بعضنا البعض. ولكن بدلاً من ذلك، بدا الجو متوترًا، والصمت محرجًا طوال الطريق إلى المنزل.

أفاق فريد من النوم، وكان يبدو عليه الاضطراب.

جهزت نادية الإفطار، وقالت له: 
-تعالى  يا فريد لتتناول وجبة الإفطار. جهزت لك شرائح من المعجنات وكوب القهوة الساخن.

جلس فريد على السفرة لتناول وجبة الإفطار، وأثناء ذلك تحدثت إليه نادية قائلة:

-أتمنى أن يكون هناك تفسير لهذا التصرف. هل أنت متعب أو مرهق من السفر، أو لربما هناك أمر لا أعرفه؟

- لا شيء سوى التعب.

جلس فريد يفكر بعمق وبقلق شديد في كيفية إخبار زوجته بالخبر الذي سيقلب حياتهما رأسًا على عقب. لم يكن قادرًا على التركيز على أي شيء آخر.

استمر دوران الأفكار في رأسه.

حاول فريد أن يجمع شجاعته ويبدأ الحديث مع نادية: "عزيزتي نادية."

- عزيزتي؟

- هناك شيء أريد أن أخبرك به، ولم أعلم كيف أبدأ. ربما يكون صعبًا عليك سماعه، ولكنني أشعر بأنني مضطر لأن أكون صادقًا معك.
انتابها القلق العميق :
- ماذا؟ خير إن شاء الله؟

نظرت إليه نادية بقلق وتوتر، كأن سحابة غيم سترتطم بالجبل لكي تسقط شرارة من الأمطار التي ستهلك بعدها.

أخذ فريد نفسًا عميقًا وأكمل: 
-لقد تزوجت بامرأة أخرى منذ بضعة أشهر...

شعرت نادية كأن سيارة كبيرة ارتطمت بها وكسرتها، وصاعقة من السماء نزلت عليها حطمتها. نظرت إليه مليًا بنظرة شزراء قائلة: "لماذا فعلت ذلك؟"

أشتد وجه نادية احمرارًا، توسدت حائطًا وأطالت النظر إلى فريد. أطلقت زفيرًا باردًا، وكان وجهها محفورًا بعمق الاستياء.

- كيف يمكنك أن تفعل هذا بي؟ أنا زوجتك. كيف يمكنك أن تفعل هذا؟

شعرت وكأن الأرض انشقت تحتها. ولم تستطع تصديق ما سمعته. أخذت بضع ثوانٍ للتأقلم مع الخبر المدمر، ثم انفجرت في البكاء والصراخ.

حاول فريد أن يقترب منها ليحتضنها، ولكنها أبعدته.

- لم أقصد إيذاءك، أرجوك سامحيني.

شعرت نادية بألم لم تشعر به من قبل، وكأنها تحترق بالنار ولا يستطيع أحد مساعدتها.

أمواج هائجة جاءت لتغرقها في البحر، ولم تعرف كيف تتصرف.

- أأتركه... ماذا أفعل؟

مجموعة من التساؤلات جاءت في ذهنها:

- هل أنقذ بيتي من الخراب، أم أترك كل شيء... نار أشعر بحريق داخلي.

لم تكن نادية متأكدة إن كانت ستستطيع أن تستمر زواجها بعد هذه الخيانة. كل ما كانت تعرفه هو أن قلبها قد انكسر إلى أشلاء.
أعتذر !
كان الفرق شاسع بين أن تعتذر لأنك أغضبتني وبين أن تعتذر لأنك خذلتني. الغضب يكفيه الاعتذار وأحيانًا يكفيه فقط مساحة من الوقت والصمت، لكن الخذلان لا يخفف مرارته الاعتذار ولا الوقت ولا الصمت.. كل الآمال تسقط دفعة واحدة تهوي وتذوي وبشدة.

غادرت نادية البيت، جامعةً كل أغراضها وملابسها وكل ما يخصها، ذاهبة إلى بيت أهلها، وطلبت من فريد الانفصال.

- لكنكِ أعز إليَّ من أن ينتهي أثرُك.

- لقد حذروني منك، لكنني اندفعت إليك بكامل شغفي ورغبتي. أحمل في داخلي ألف.. ألف تحذير من الاقتراب منك، وركضت إليك وكأنك آخر الآمال. كأنني في قربك عرفت كيف أحترق داخل النيران، دون ألم. أعتقد أن أسوأ ما قد يحدث لأي امرأة هو أن تنكسر من المكان الذي آمنت به. أنا لا أتقاسم الشيء.
(إما أمتلكه وحدي أو أتركه لغيري). 
لقد خنت ثقتي.. وكسرت قلبي.

وداعًا.




 


تعليق / الرد من

إقرأ أيضًا

بوابة القاهرة

الشاعر الدكتور عبد الولي الشميري يكتب قصيدة اوتار

الشاعر الدكتور عبد الولي الشميري يكتب قصيدة اوتار
بوابة القاهرة

اختيار الإعلامية نيدا زريق كأفضل شخصية إبداعية لخدمة الإنسانية في مهرجان «روائع» الدولي بالقاهرة

اختيار الإعلامية نيدا زريق كأفضل شخصية إبداعية لخدمة الإنسانية في مهرجان «روائع» الدولي بالقاهرة


الاكثر شهرة

تابعونا


جارٍ التحميل...