دع الأيام تفعل ما تشاء.. وطِب نفسًا إذا حكم القضاء
د. تمام كيلاني
دع الأيام تفعل ما تشاء.. وطِب نفسًا إذا حكم القضاء
د. تمام كيلاني*
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
«دع الأيام تفعل ما تشاء، وطِب نفسًا إذا حكم القضاء»، وهذه الكلمات، على بساطتها الظاهرية، تحمل في طياتها فلسفة عميقة للحياة، تزرع في النفس الطمأنينة، وتعلّم الإنسان كيف يعيش برضا وسكينة وسط تقلبات الحياة وتقلب الأقدار.
الحياة بطبيعتها مليئة بالتغيرات والمصاعب، وأحيانًا نجد أنفسنا أمام أحداث لا نستطيع التحكم فيها أو تغييرها، مهما بذلنا من جهد. في هذا السياق، تأتي حكمة الشافعي لتذكّرنا بأن قبول القضاء والقدر ليس ضعفًا، بل هو قوة روحية وعقلية تمنحنا الهدوء الداخلي وتحررنا من العبء النفسي الناتج عن المقاومة المستمرة لما لا نستطيع تغييره.
أولًا: فهم القضاء والقدر
القضاء والقدر هما أمران مقدران من الله عز وجل لكل إنسان منذ الأزل، قال تعالى:
{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}
فهذا التذكير الإلهي يوضح أن لكل حدث سببًا، وأن الصبر والرضا هما السبيل لتجاوز ما لا نستطيع تغييره. الحياة مليئة بالمفاجآت، بعضها يُسعدنا وبعضها يختبر صبرنا، ومهما حاول الإنسان التحكم في كل تفاصيل حياته، فإن هناك ما هو خارج إرادته.
قبول هذا الواقع ليس استسلامًا للضعف، بل هو إدراك حكيم لطبيعة الحياة، وتركيز على ما يمكن تغييره وتحسينه، وترك ما لا نستطيع التحكم فيه لله. هذا الفهم يمنحنا راحة نفسية ويجنبنا التوتر الناتج عن المقاومة المستمرة لما هو محتوم.
ثانيًا: الطيب في العيش
عيش الحياة بطمأنينة لا يعني غياب المشكلات أو الصعوبات، بل يعني القدرة على تقدير النعم التي نمتلكها، والرضا بما قسم الله لنا، وممارسة الامتنان لكل لحظة في حياتنا. الطيب في العيش هو حالة ذهنية ونفسية، ينعم بها الإنسان حين يدرك أن السعادة ليست في امتلاك كل شيء، بل في القناعة والرضا الداخلي.
ومن هنا، نجد أن التوازن النفسي يعتمد على:
تقدير اللحظات الصغيرة والبسيطة، مثل صحة الإنسان، وجود الأسرة، والأصدقاء الصادقين.
قبول الأحداث المؤلمة كجزء من دورة الحياة، واستخلاص العبر والدروس منها.
إدراك أن القلق أو الغضب لا يغير الواقع، وإنما يرهق النفس ويؤثر سلبًا على طاقتها.
ثالثًا: الحكمة في التعامل مع الأحداث
عندما نقول: “دع الأيام تفعل ما تشاء”، فإننا ندعو أنفسنا إلى عدم الانفعال المفرط تجاه الأمور الخارجة عن إرادتنا. فالتوتر والغضب لا يغيران الحقيقة، بل يستهلكان الطاقة النفسية بلا فائدة. أما القبول الحكيم، فهو يمنحنا القوة للصبر، وللتصرف بعقلانية، وللبحث عن الحلول الممكنة بدل الانشغال بما لا يمكن تغييره.
وفي هذا الإطار، يمكن للإنسان أن يضع خطة عملية للتعامل مع الأحداث، تقوم على ثلاث ركائز أساسية:
1. التقييم الواقعي: معرفة ما يمكن تغييره وما لا يمكن تغييره، وفصل الأمور القابلة للتحكم عن الأمور المحتومة.
2. الصبر والهدوء: التعامل مع الأحداث بطمأنينة وعدم الانفعال، مع الاعتماد على العقل والحكمة.
3. العمل الإيجابي: تحسين ما يمكن تحسينه، وتوجيه الطاقة نحو ما ينفع الإنسان والمجتمع بدل الانشغال بما لا طاقة لنا عليه.
رابعًا: تطبيق الحكمة عمليًا في الحياة اليومية
تطبيق هذه الحكمة ليس مجرد شعار، بل أسلوب حياة يمكن تبنيه يوميًا، من خلال:
1. الصبر عند الابتلاءات: تذكّر أن كل مصيبة لها سبب وحكمة، وأن الله لا يبتلي عبده إلا بما يستطيع تحمله.
2. القناعة والرضا: تقدير ما لديك والعيش بسلام داخلي بدل الانشغال بما لا تستطيع تغييره.
3. الامتنان: التركيز على النعم الموجودة، وممارسة الشكر لله على الصحة، والأسرة، والرزق، والفرص المتاحة.
4. الدعاء والاستعانة بالله: اللجوء لله في مواجهة الصعوبات، والاعتماد على قوته وحكمته، مع إدراك أن النتائج بيده وحده.
5. التفكير الإيجابي: تحويل كل تجربة، سواء كانت ممتعة أو صعبة، إلى درس يُثري النفس ويقوي الشخصية.
خامسًا: البعد النفسي والاجتماعي
الحكمة الشافعية تضع الإنسان في حالة من الهدوء النفسي والتوازن العاطفي، وهذا له انعكاس مباشر على صحته النفسية والجسدية. إذ أظهرت الدراسات النفسية الحديثة أن قبول ما لا يمكن تغييره والرضا بالقضاء يخفف من التوتر والقلق، ويزيد من مرونة الإنسان في مواجهة الضغوط اليومية.
كما أن هذه الحكمة تساعد الإنسان على تطوير علاقاته الاجتماعية، لأن من يرضى بالقضاء ويعيش برضا داخلي يكون أكثر لطفًا وهدوءًا في التعامل مع الآخرين، وأكثر قدرة على العطاء والمشاركة في الخير.
اخيرا:
حكمة الإمام الشافعي “دع الأيام تفعل ما تشاء وطِب نفسًا إذا حكم القضاء” ليست مجرد كلمات جميلة، بل هي أسلوب حياة شامل يربط بين البعد الروحي، والنفسي، والاجتماعي للإنسان. إنها تعلمنا أن الحياة رحلة مليئة بالتحديات، وأن قبول ما لا نستطيع تغييره مع السعي لتحسين ما نستطيع تغييره هو الطريق الأمثل للسلام الداخلي والسعادة الحقيقية.
فالرضا بالقضاء والقدر، والعيش الطيب، والهدوء النفسي، والتفكير الإيجابي، هي مفاتيح تجعل الإنسان متوازنًا، هادئًا، راضيًا، وسعيدًا في هذا العالم، مهما كانت تقلبات الأيام صعبة أو مفاجئة.
*رئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب بالنمسا