الفكرة الفنية لدى عناية البخاري.. امتداد لحيوات مجازية أخرى!!
غلاف
الفكرة الفنية لدى عناية البخاري.. امتداد لحيوات مجازية أخرى!!
طلال مرتضى*
ثمة نهج فني خاص اتّبعته الفنانة السورية عناية البخاري منذ وقفت أول مرة أمام اللوحة البيضاء، يعبر عما يدور في ذهنيتها تجاه الحياة، فمن يراقب تطور وتواتر تجربتها الفنية يتلمس هذا عن كثب..
فهي لا تؤمن بأن الفكرة الفنية التي تبتدعها تنتهي حدودها عند حواف إطار اللوحة الواحدة، بل جعلتها تتمد نحو مساحات بيضاء أخرى وتجعل فيما بينها خط اتصال، صلة، رابط يشي بأن العمل الأول أو اللوحة الأولى أو الفكرة الأولى لم تولد مقطوعة من شجرة كما يقول العوام، إنما هي امتداد، تتناسل من لدن بعضها البعض وتتداخل حسب الحالة، وهذا ما تم تطبيقه بالفعل في عدة معارض سابقة لها، كمعرض الخوابي الذي عرضته قبل سنوات في دمشق، المعرض الذي اثبتت عناية البخاري من خلاله ان العمل الفني هو امتداد لعمل أخر، فأولى الخوابي التي شكلتها، تناسلت خوابي أخرى تعالقت مع بعضها البعض بسلطة الألوان أو طريقة التشكيل وترابطت بخطوط رفيعة كالانسجة الجينية أو عبر لطاخات موزعة بطريقة مدرسة تومئ للمتلقي أو الرائي بأن هذه اللوحة ولدت من نسل تلك اللوحة..
وينطبق الأمر تماما على معرضها التالي "المنمنمات الشامية" والتي استقت الفنانة البخاري فكرته من أقمشة البيئة الشامية البيتوتية، ذات الطابع الخاص، والذي يميز أقمشة الشام عن غيرها، فكانت اللعبة/ الفكرة التي جسدتها هنا كما الخوابي، فهي لم تستنسخ عملا فنيا منقوش على قطعة قماش بعينها، قامت بإحيائه بطريقة مختلفة، بل استغلت قدرات الطبيعة، لتبتدع أعمال فنية لها خصوصيتها وهي جزء من الموروث الشامي، الملاءات والستائر والشراشف، باستخدام فعالية الظل والضوء، وبطريقة الإسقاط، فالضوء الساقط من عين الشمس فوق الياسمينة أو شجرة الكباد، يندلق على أرض الدار كسجادة حيكت بعناية عارف أو انعكاس ظلال بتلات الياسمين أو حبات الكباد في البحرة الصغيرة التي تغدق تدفقاتها بتناسق، هي الأخرى تشكل من أعلاها لوحة طبيعة، كانت بانتظار عين ملهمة تقوم بالتقاطها، لوحة من صنع اللحظة المارقة، رصدتها عناية البخاري ووثقت حضورها على القماش، تلك التقاطات نادرة لا يمكن التعامل معها بهدوء وتأني من باب أنها عابرة وقد لا تعود مرة أخرى بنفس حضورها الأولى وبالطبع هذا يعود لافتعالات الطبيعة..
اعتمدت الفنانة عناية كمدلول حسي لتبيان فعالية تجربتها، مجموعة من الألوان الباردة التي تحاكي قصص الظلال والعزلة، كاللون العفني والرمادي وفي مطارح أخرى تناولت الأحمر الغامق للجرار الكبيرة الولادة، بينما اتخذت من الأزرق الهادىء مساحات تحاكي افكار الماء والصفاء..
يقولون ان المبدع دائما يترك اثرا كبيرا وعلامات واضحة في مطارح متعددة من إبداعاته، أشياء مسلتهمة من الكار الذي يمارسه في اليومي كما المهنة، على مبدأ الطبيب الشاعر الذي يقول: أما من خيط أحييك به ما تركه مبضع غيابك!!
كذلك عناية وفي معرضها الأخير وبوصفها مهندسة طبوغرافية، استطاعات تشكيل مسطحات هندسية منفصلة متصلة، منفصلة من حيث أحجام اللوحات، ومتصلة بالتطابق، أي يمكن ان تشكل لوحة كبيرة من عدة لوحات، وبفكرة مكتملة، ويمكن ان تكون اي من هذه الإجزاء لوحة بعينها، تحاكي فكرة أخرى او مماثلة..
الكل يعرف وممن يشتغلون بمجالات الفن أو الأدب، ان استعمال ما هو علمي، فيما يتعلق بالحساب أو علوم الهندسة، لا يمكن التعاطف والتفاعل معه حسيا، من باب ان العلم لا يمكن المس بمعادلات الثابتة، ما تركته عناية في معرضها الجديد والذي يتجسد من عدة أشكال هندسية، لا يمكن للعين إلا ان تنشغل بالانتباه إلى جزء ما والتفاعل معه، سواء من هالة الشكل الخارجي للعمل الفني وتركيباته أو عند التوغل بطبقة ما من طبقات اللوحة والتي تم اشتغالها على عدة مراحل.
*كاتب سوري/ فيينا.