حين يتيه القلم في زمن الصخب
د. تمام كيلاني
حين يتيه القلم في زمن الصخب
د. تمام كيلاني
حين قال توفيق الحكيم عبارته الخالدة:
“انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم”
لم يكن يطلق حكمة عابرة، بل كان يرثي زمنًا بكامله… زمنًا كانت فيه للكلمات أجنحة، وللفكرة جلالة، ولصاحب القلم مقامٌ لا يُمسّ.
كان يدرك—بعين الأديب الذي يرى ما لا يُرى—أن زمنًا آخر قادم، زمنٌ تُقاس فيه القيمة بضجيج الجماهير، لا بدفء المعنى، وبعدد الومضات التي تلمع على الشاشات، لا بعدد الأسئلة التي توقظ العقل.
المثقف… ذلك السائر وحيدًا في الممر الطويل
ثمة قافلة صامتة تسير في الظلال، يسمّونها “الطبقة المثقفة”، لكنها في الحقيقة طبقة الحراس…
حراس الذاكرة والضمير والهوية.
هؤلاء الذين يكتبون كي لا تهجر الروح مقعدها، ويصرخون بالكلمات كي لا تصمت الحقيقة، ويشعلون قناديل الحكمة في الأزمنة التي اعتاد فيها الناس السير بلا بوصلة.
ومع ذلك، فإن هؤلاء، في كثير من بلادنا العربية، يُعامَلون وكأنهم آخر الركاب على سفينة المجتمع، يُمنَحون أقل المقاعد، وأضيق المساحات، وأثقل الأعباء… ثم يُطلَب منهم أن يصنعوا المعجزة.
يا للمفارقة!
يُطالَب صاحب الفكر أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، بينما تقف المؤسسات خلفه لا سندًا، بل ظلاً باهتًا لا يكاد يُرى.
زمنٌ انقلب فيه الميزان
لقد تغيّرت المقاييس؛
صار مَن يركض دقائق في الملعب يربح ما لا يربحه مَن يركض عمرًا خلف فكرة،
وصار مَن يغني أغنية عابرة أشد حضورًا من مَن يكتب كتابًا يغيّر مسار أجيال.
وتبدّل موقع النور؛ لم يعد في الصفحات التي تُدرّس النفس معنى الحياة، بل في تلك الشاشات التي تُدرّسها كيف تهرب من نفسها.
وهكذا، غُمر صوت المثقف في أمواج لا تهدأ من الصخب… صخب لا يبني شيئًا سوى مزيد من الغبار على مرايا العقل.
الوطن العربي… حين يستوحش بلا مثقفيه
في الوطن العربي، حيث تحتاج الأرض إلى كل حرف مضيء، يُهمَّش الكاتب، ويُقصى الباحث، ويُستبعَد المفكر،
كأن الثقافة تُعدّ ترفًا في زمن الاضطراب، لا طوقَ نجاةٍ في بحرٍ تتلاطم أمواجه.
كم من مكتبات صارت أطلالًا!
وكم من دور نشر تئنّ تحت عبء الورق الذي لا يجد قارئًا!
وكم من مفكرين هاجروا، ليس رغبةً في الرحيل، بل فرارًا من جفافٍ لا ينبت فيه فكرٌ ولا يُثمِر وعيٌ.
لقد صار المثقف في وطنه كطائرٍ يبحث عن غصن، أو كنبعٍ يبحث عن من يحمل إليه الكأس.
وحين يغيب المثقف… يختلّ الزمن
غياب المثقف ليس غياب شخص، بل غياب عينٍ كانت ترى المستقبل، ويدٍ كانت تكتب الطريق، وصوتٍ كان يوقظ البلاد كلما أوشكت على النوم.
وما أشدّ قسوة الزمن حين يغيب عنه من يفسّر لغته!
فقد تضيء الملاعب، وتشتعل المنصات، وتلمع الشاشات…
لكن العقول، حين تُهمل، تنطفئ ببطء… ببطء لا تراه إلا حين يفوت الأوان.
ما الذي يجب أن نعيده؟
علينا أن نعيد الاعتبار للكلمة،
أن نعيد الكرسي لصاحبه،
أن نعيد للفكرة مكانها في قلب الأمة،
أن نعيد للمثقف حقّه قبل أن نطالبه بأن ينهض بنا.
نحتاج إلى أن نُقيم للمعرفة جسورًا، وللعقول منابر، وللأدب حاضنةً لا تُقصيه.
نحتاج إلى قوانين تحمي الكاتب من أن يُسرَق صوته،
وإلى مؤسسات ترى في الثقافة جوهر النهضة، لا هامشها.
في الختام…
قال الحكيم عبارته بحسرة عاشق،
لكنها ليست قدرًا مكتوبًا.
فالقلم لا يموت،
والفكرة لا تنطفئ،
والمثقف، مهما طال صمته، يظلّ هو أول من يسمع نبض الأمة، وآخر من يطفئ مصباحه في ليلها الطويل.
حين نعيد للمثقف مكانته، لن نستعيد شخصًا،
بل سنستعيد معنى،
وسنمنح هذا الوطن قلبًا يعرف كيف يخفق من جديد.
*رئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب بالنمسا.