Mobile : 00436889919948 [email protected]
Follow us:

بوابة القاهرة

خيوط الشرنقة

  خيوط الشرنقة



  خيوط الشرنقة

انصتوا.. لأنين أبنائكم

 

د.فايزة حلمي

 

 

          تَعثّرت خطواتها وهي تمضي بها مِن باب الحجرة حتى مقعدها, مثلما تعثّرت كلماتها في بداية حوارها, في محاولة منها أن تجد خَيْط البداية, وكأنّها تحاول الإمساك بأول خيوط الشرنقة المُلتفّة حولها.....

       لذا كان أول سؤال توجّهتُ به لها عن أحوالها في منزل العائلة .."الأسرة الرئيسية", تعجّبَت مِن السؤال البعيد تماما عمّا جاءت تشكو منه, لأنها جاءت بصدد مشكلة في "منزلها الصغير", أسرتها هي, فأوضَحْتُ لها أن ما نأخذه من منزل عائلتنا  معنا من تراث للأسرة الجديدة .. يظل داخلنا كبوصلة ترشد خطواتنا للإتّجاه الذي نسْلكه..

     وحسبما الحال إذا كانت البوصلة سليمة ومضبوطة, سترشدنا في حياتنا الجديدة للإتّجاه الصحيح, أمّا.. ودائما ..أمّا ..لو كانت البوصلة غير سليمة, فلن ترشدنا دائما إلّا للإتّجاه الخاطيء.. تماما كالساعة, في حالها مضبوطة سوف تخطرنا بالوقت صحيح.. والعكس, وغالبا ..هناك الكثير مِن البوصلات غير السليمة التي يحملها الأبناء معهم من منزل الوالدين, وكم من كوارث تحدث ..نتيجة لهذا.

     كانت في الثلاثينات من عُمْرها..أكبر أخواتها البنات, ذكرت أن والدتها تركتها بعد ميلادها بشهور, وسافرت لإحدى الدول العربية للعمل؟!!! تركتها لدى إحدى القريبات..هكذا ببساطة؟!! نعم هكذا ببساطة..

     ولا يدرك الأهل ..والأم على وجه الخصوص ..كَم هذا التَرْك..هو مُؤلم..مُؤثّر..مُفزع..مُوجع..ومهما كانت المفردات اللغوية المُستخدمة, فهي لا تصف أبدا ما يعتمل في نفوس الأطفال حينها..هذا الإقصاء؟؟؟لا....هذه القسوة..هذا الإستغناء.

     نعم ..كم هو قاسي.. هذا الإستغناء ... أو هذا التخلّص .. تماما كما قال هذا ذات يوم شاب في العشرينات ..ونص كلماته "كأنني شىء زائد عن الحاجة لديهم..كأنني جئت ولم يكن لديهم إستعداد لحضوري..وكأنني هبطت عليهم من براشوت, وكأنهم فوجئوا بوجودي الذين هم لم يكونوا في حاجة إليه, .. وكأنني شيء مُتطفل علي حياتهم فقرروا التخلص منه.. وعند عمّتي تركوني, والغريب أنهم تركوني لديها ولم يسافروا للخارج أو يهاجروا, لكنهم كانوا بنفس البلد؟!!!! وكأنّهم تبرّعوا بي لها لعدم وجود أبناء لها ....

      كأن أمي وأبي أشفقوا على عمّتي ..ولم يشفقوا عليَّ, فقط كنت أسمعهم يحادثونها تليفونيا ويسألونها  عن شقاواتي, وأحيانا كنتُ أراهم كضيوف عندنا..أو نذهب كضيوف إليهم, وأراهم وأنا بصحبة عمتي التي كنت أناديها ماما ( ومازال الكلام على لسان الشاب), لم يفارقني هذا الإحساس أبدا بأنهم قرروا التخلص مني لعدم حاجتهم لي, والغريب أنهم إحتفظوا بثلاثة مِن إخوتي معهم!!!!

   ومهما قِيل لي مِن أسباب ..لن أغفر لهم, فقد كان عليهم ألّا ينجبوني..وكما قرروا أن يعدموني بعد ولادتي بإقصائي عنهم (صحيح ليس بعيدا بل قريبا بالمكان فقط عند عمتي), كان الأفضل  لي ولهم ..أن يعدموني وأنا في أول شهوري وقبل أن يكتمل حَمل مَن هي بشهادة الميلاد أمي بي, ففي كلتا الحالتين هو تخلّص مِن إنسان....

   وإذا كان إجهاض جنين في شهوره الأولى هو إحتمال حرام لأن الروح قد دبّت فيه, فكيف يكون إجهاض روح إنسان بعد أن إكتملت بخروجه للحياة؟!!!! إجهاض روحه بإبعاده عن روحه التي تواجد بداخلها تسعة أشهر؟!!! ببساطة ينتزعوه منها ويتبرّعون به لغيرها وبعد ذلك يسألون..لماذا هو إنسان بلا روح؟!!" .

       إنتهى كلام الشاب الذي توارد لذهني في وميض خاطف.. حين سَمِعت جليستي تبدأ بنفْس المقولة, كلها أعراض لِحَدث واحد لا يدرك مداه الأبوان حين يقرّرا ترك طفلهما (سواء ولد أو بنت) لدى أي من أقاربهما سواء أجداد أم أعمام أو غيرهم, لأنها في النهاية قسوة غير مقبول تبريرها, على الأقل لدى الطفل الذي تُرِكَت روحه مع أمه بصفة خاصة, لأنها التي كان يتغذى منها, وليس أبوه الذي لم يتعرّف عليه بعْد لا روحيا .. ولا إنسانيا.

       ويعيش بعد ذلك هذا الطفل مع الراعي الجديد, وتمضي أيامه بقوة الدفع الذاتي, هي هكذا عاشت صاحبة الخطوات المترددة, عاشت حتى عادت الأم من الخارج, بعد أن يفعت الإبنة, وبموجب شهادة الميلاد التي تقول أنها إبنتها..قررت إستردادها, إسترداد قطعة لحم نَمَت بلا روح, وإستوطن هذا الإحساس لديها, قالت أنها تشعر أنها إنسان آلي منزوع البطاريات, وكانت تعتقد أنها حين تعود لأمها ..ستضع لها هذه البطاريات فتُعيد لها الحياة, حتى وإن كانت حياة آلية..وتخيّلت أنها بعد ذلك وبالحب والحنان الذي ستغدقه عليها أمها لتعويضها..ستبعث في هذا الإنسان الآلي..الحياة.

      ولكن ... ما حدث كان عكس توقّعها..فإن الُبعد والغربة لم يؤثّرا فقط في الطفلة, ولكن إنتزع الحب والحنان مِن قلب أمها تجاهها, وهذا ما ظنّته في البداية, لكنها إكتشفت بمرور الأيام أن امها بطبيعتها منزوعة الحب والحنان, وبإبتسامة ساخرة أضافت قائلة لي :" مثل الجبنة منزوعة الدسم أو اللبن منزوع القشدة", أي لا روح ولا حب ولا حنان..فقط قسوة, فكيف كانت الطفلة التي أضحت الآن شابة في الثلاثينات, كيف تترجم هذه  القسوة؟

      في بداية الأمر حاولت الطفلة التي كانتها آنذاك  أن توُجِد مبررا لقسوة أمها في معاملتها بعد أن أبعدتها عنها هذه السنوات العَشْر, وقالت في ذهنها أن الأم الأن تحاول أن تُوُصِل لها رسالة( أن المنزل الذي أرسَلتِك لتعيشي فيه كان أفضل من هنا, وأنا كنت أحبك حين تركتك لهم), وسرعان ما تلاشى هذا المفهوم , وإختفت هذه الرسالة من ذهنها بإستمرارية القسوة,  فقد تيقّنت الطفلة التي بدأت تدريجيا تكبر مع الأيام, فهمت أن طبيعة الأم القسوة , وهذه الطبيعة هي التي بسّطت لها ترك إبنتها في كنف الآخرين.

    تسابقت دموعها ..وهي تستكمل وتسرد محاولة الإختصار ..مظاهر قسوة الأم في معاملتها فيما أتى عليها من الأيام, وقد حاولت تحميلها مسئولية البيت ..بل وإخوتها الأصغر منها, وأهملت كل ما يجب أن تقوم به الأم تجاه إبنتها من رعاية , وكأنها ما إستردّتها إلّا لتكون يد معاونة لها في أعمال المنزل.

      لا تدري لِما إستشعرت أنها سندريلا المقهورة في القصة الشهيرة, وأن الأم هي زوجة أبيها, كان هذا تعبير زوجها الذي أتي بإحدي المرّات.. ليساهم في إيضاح بعض الخطوط للصورة التي أضحت عليها زوجته, موضّحا أنها لم تهتم بها يوم خطبتها له..ولا حتى بزينتها وملابسها ولا تجهيز المنزل لإستقبال الضيوف القادمين, وكان ذلك ملحوظ للجميع وموضع إستغراب وإستنكار.. بل وتساؤل.

    ولأن بصمات الأحداث الغائرة في وجداننا كالوشم لا يُمْحى بسهولة, فتبقى الأحداث قابعة في ثنايا الذاكرة .. غافية.. لأي مدى؟!! لا ندري مَن يوقظها ولا أي الأحداث تكون بمثابة المطرقة علي أبوابها, لذا ظلت هذه الذكرى قابعة في ذاكرتها سنوات طوال حتى بعد زواجها.. وفجأة تيقّظت مِن غفوتها بحضورها  حفلة خطبة إحدى قريبات زوجها.

 لم تستطع التماسك.. كادت تفقد وعيها, أذهلت مَن حولها بإصرارها على مغادرة المكان.. والعودة إلى شقتها, حاملة معها مخزون ذكرياتها عن يوم خطوبتها هي , الذكريات التي تيقّظت مِن غفوتها حين رأت بهاء العروس وزينتها وفستانها, وإهتمام أم العروس بإبنتها ومتابعتها لكل شاردة وواردة وإلتفاته منها, وكأن الأم تقف عند باب عين إبنتها فتتلقف نظرتها وتترجم إحتياجها في التو حتى لو كان لمنديل ..إهتمام بكل التفاصيل رصدته هي في الدقائق القليلة التي تمالكت نفسها فيها, بعدها لم تستطع..ولم تحتمل تدافع الذكريات..وخشيت أن تتبدّى هذي الذكريات مُجسّدة أمام   الحاضرين!

     وكان تصوير المشهد بنص كلماتها وهي جالسة تلاحق دموعها, وكأن المشهد آنيا أمامها وهي تسترجعه, كانت تصوّر يديها وهي قابضة على الذكريات وتجرّهم جرّا وراءها, كان هذا إحساسها حينئذ, لذلك كان منظر يديها القابضتين على الهواء, ومنظر فمها المّطبق على لا شىء خوفا مِن إنطلاق صرخة مدوّية تحسّها توشك أن تنطلق..ومنظر جسدها المرتعش, مَدعاه لإسراع زوجها بإبعادها عن المكان, وكذا سرعة إستجابته لمطلبها بالعودة..مُدْركا ما تعانيه, لأنه كان مصاحبا لها في رحلة معاناتها.

        لعلّنا هنا ندرك كأهل .. وكبشر.. كم مِن أحداث الحياة تمر بهدوء, وكَم منها.. مروره يُحْدِث دَويّا صارخا يصُم آذان. الطفل... وهذا الأخير مروره بثقل خطواته, يُحدِث إيقاظا لما خبّأته الأيام والأحداث, داخل الغُرف المُظلمة ..المُغلقة داخل وجدان الطفولة..وأحيانا قد يُفْهَم لِما يحدث ذلك, وأحيانا لا يَعْرف أحد لِماذا يحدث لهم هذا, مِن كثرة وعمق البئر الذي تم تخبئة  الأحداث به,  بنسيانهم.. أو تناسيهم لِما حدث بالماضي, ثم تكون المفاجأة حين تمرّ أحداث مشابهة فيما بعد مرور الحياة بالإنسان"الطفل الذي كان", فيتحرك البركان الخامد داخله.. وعلى حين غره تتصاعد الحِمم مِن فوهته وسط ذهول مَن حوله....

    وتتبقى المقولة الذهبية التي تدعونا للإنتباه لمنح صغارنا ذكريات طفولة إيجابية..

     

*استشاري نفسي وكاتبة/ مصر



تاريخ النشر ::3/11/2023 4:08:02 PM

أرشيف القسم

صفحاتنا على مواقع السوشيال ميديا