Mobile : 00436889919948 [email protected]
Follow us:

بوابة فيينا

قناع بلون السماء

قناع بلون السماء



قناع بلون السماء 

تتجاوز الأسلاك الشائكة وتطلق صافرات الانذار المبكّر 

 

إياد حسن*

  

بداية أود تهنئة الكاتب على هذا المنجز الذي يستحق الاحتفاء والتكريم، كما نهنئ القراء على عل هذا العمل الذي يعتبر إضافة قيّمة إلى المكتبة العربية. ولا ينقص هذا الاحتفاء سوى وجود صاحب المنجز طليقاً خارج قضبان الأسر. باسم خندقجي علّم درسًا للأحرارخارج القضبان كما علّم السجّان من قبل أنه أكثر حرية منهم. وهكذا فإن الأدب والرواية بالتحديد مازالت تدهشنا بقدرتها وأثرها العجيب على مستويات مختلفة. هذا الفن الذي طوّعه الكاتب كأداة قادرة على نقل وتصوير حالة تاريخية اشكالية يتفرد فيها من عاش على هذه البقعة من الأرض منذ بدء الحضارة.  

المعترف به عالمياً هو حق الشعوب المُحتلّة مقاومة الغاصب للأرض والدفاع عن الوطن والعرض ودون ذلك الموت أو الأسر. ومن الطبيعي أن يكون مغتصب الأرض دموياً وشرساً في معاملة أسراه. وباسم خندقجي الإنسان أولاً والشاعر والمثقف ثانيًا، أبى إلا أن يُلازم الكلمة بالفعل، متناغمًا مع مبادئه التي ينادي بها، وها هو الآن يقبع في الأسر منذ عشرين عاماً. 

 أن يكتب الأسير عن فظائع سجانه لهو أمر طبيعي وهذا ما يندرج تحت الكتابات في الأسر. لكن خندقجي يقدّم عملاً روائيًا يخترق به جدران السجن المسلّحة ويحجز من خلاله اسمًا خاصًا ويحفر له بصمة مميزة في قائمة الرواية العربية والعالمية.   

 لا يستطيع القارئ العربي لهذا العمل إلا التفاعل العميق مع السطور وما تحت السطور وتتسارع خفقات القلب عندما ترتبط الأحداث بمثيلاتها على أرض الواقع المعاش وخصوصًا أن شلال الدم مازال ينزف، وتلك حكاية شجية لن يدركها قارئ أوروبي أو أميركي مثلًا. ورغم كون العمل يستوفي عناصر الرواية كلّها التي تجعل أي قارئ في أي بقعة من العالم يستمتع بتخيل عوالم العمل بكل تفاصيله، رغم ذلك فإن عنصر التشويق يُلزمك الارتباط بالرواية حتى آخر سطرٍ وصولًا إلى النهاية.    

في هذه الأسطر أود متابعة بعض الخطوط أو الثيمات التي عالجتها الرواية وأصَّلت لها. فالكاتب هو المؤرخ الحميمي مؤرخ اللحظة، والناقل الحقيقي لأسباب ما يحدث في الواقع وربما لنتائجه.  

بناء الشخصيات في الرواية فيه من الحداثة والتركيب ما يجعلك ترسم صورة البطل الأسطوري، بل وتتعامل معه كأنه جزء منك وصولًا لتبنى أفعاله ومواقفه. نور المشهدي الشخصية المركبة التي تعيش صراعات متعددة وسباقاً مضنيًا مع الزمن. في الظاهر هو البحث عن الحقائق وكتابة بحث رداً على رواية دان براون "شيفرة دافنشي" التي ينسب للسيد المسيح ولمريم المجدلية أباطيلًا لا أساس لها من الصحة على الأقل بالعودة إلى المراجع الموثوقة التي بين أيدينا وخصوصاً فيما يتعلق بالمجدلية أحد أهم أقرب المقربين للسيد المسيح. وهنا تتوالى عبر فصول الرواية بعض التحقيقات التي انتهى إليها نور المشهدي والتي تدحض رواية دان براون ومغالطاتها التاريخية. وعبر تسجيلات صوتية يسرد تلك التفنيدات لتشكل رواية موازية للرواية الأساس.   

ولتحقيق ذلك الهدف وهو اكتشاف الدليل القاطع على سيرة المجدلية التي مسحت أقدام المسيح بأغلى العطور وأندرها كان يجب على نور الوصول إلى بئر سمعان حيث تنتهي حكاية المجدلية وأسرارها في أعمق نقطة فيها. وكيف له ذلك وقد شيّد الصهاينة على تلك البقعة مستوطنتهم المحصّنة، غير القابلة للاختراق. كان لا بد من أن تكون شخصية البطل ذات تكوين نفسي ومعرفي خاص وتمتلك مهارات اجتماعية وقدرة على التواصل بشكل منقطع النظير.  

  

نور ابن المخيمات في الضفة الغربية لا يسمح له الدخول إلى القدس دون تصريح عمل وهو نفسه كان جلّ اهتمامه هو البحث الأثري ليعمل كدليلٍ سياحي في احدى شركات القدس السياحية قبل أن يتقن فن التنقيب الأثري.  

لم يكن كافياً اتقانه للّغة العبرية أو حتى قبول السياح له ولمعلوماته التي يقدمها باللغة الانكليزية والعبرية، بل كان شكله الأشكنازي عاملاً مساعداً لتغطية الملامح العربية التي يتشكل في ذهن الآخر أحكاماً مسبقة حيالها. لعبت الصدفة العامل الأكبر في تحقيق هدفه إذ عثر على هوية اسرائيلية زرقاء في معطف ابتاعه من سوق الأدوات المستعملة ليتقمص شخصية صاحب الهوية كقناع يخفي خلفه شخصيته الفلسطينية. أورو هو الشخصية التي تفتح له جواز المرور للدخول إلى عالم الآخر "العدو" ولتسهل عليه مهمته وهاجسه في تتبع المجدلية. لكن عبر تلك الرحلة من المخيم إلى المستوطنة وهو الخط الأفقي للرواية، تبرز الصراعات الأكثر حساسية والأكثر اشتعالاً من أي بقعة من بقاع العالم وهنا تتمثل الدراما الحقيقية للعمل. 

  

وفي بؤرة الصراع وعلى حافة برميل البارود المستعد للانفجار عند انطلاق أي شرارة كبريت، ينسج خندقجي حكايته بسنارة الهوية تارة وبسنارة التاريخ تارة أخرى. ويختار أحداث حي الشيخ جراح عام 2021 حصيرة يمد عليها أدوات سرده. يتمكن من عرضها بعمل ماتع ينمّ عن اطلاع ومتابعة للأحداث اليومية وعن مواكبة لبناء الرواية الحديثة وأشكال التجديد التي طرأت على سيرورتها كالأصوات المتعددة من راوٍ عليم إلى رواية تاريخ إلى حبكة وسرد مشوقين، بل ويتقن أدواتها أيما اتقان.   

"أن تكون نداً" كما صاغها الكنفاني عدّل عليها باسم خندقجي: بل أن تكون متفوقاً على الآخر. الشاب نور طالب الجامعة والمحقق التاريخي، يتحدث العربية التي هي "لغة قلبه" والانكليزية التي هي "لغة عقله" مضيفًا لهما "لغة ظله وملامحه الأشكنازية" اللغة العبرية. 

   

نماذج العائلة التي تعيش على أرض فلسطين تنوعت بين عائلته المتمثلة بأبيه الذي لم يعد يمتلك من حس المقاومة إلا السكوت ظاهرياً والقبول بالواقع الذي يعيشه في الضفة الغربية ليعمل كبائع قهوة وشاي بعد أن كان معتقلاً بتهمة المقاومة والمطالبة باسترجاع أرضه المحتلة. ثم خديجة زوجة أبيه التي كانت زوجة صديقه الشهيد وها هي زوجة أسير محرر قتله صمته: " ثمّة أحياء يُقتلون حين تُغتال قلوبهم بفاجعة ليصبحوا شهداء شوقٍ وعشقٍ ووله". لكن ذكريات البطل تأخذنا إلى واقعة دفاع الأب مهدي عن ابنه نور بعد أن تعرض الأخير لواقعة تنمر بحقه بسبب شكله الأشكنازي وهي كناية من بين عشرات الكنايات عن أن الشعب صاحب الأرض لا يسكت عن حقه ولو اضطرته الظروف للسكوت بشكل مؤقت. هذا الفقد للعائلة عوّضه بطل الرواية بعائلة الشيخ مرسي، المقدسي الذي ساعده في عمله وفي احتوائه بعد أن أطاح بفرصة البقاء في القدس كمرشد سياحي على أثر فضحة لرواية الصهاينة عن قرية صرعة التي قاد إليها مجموعة سياح أميركيين. ليست بريّة صرعة هي مسقط شمشون الجبار بل هنا تقع أنقاض القرية العربية التي نُكبت وهُجر أهلها، ها هم الآن لاجئين. لقد دمّرت العصابات الصهيونية القرية: "هنا حيث تقفون لا يوجد سوى نكبة وشعب هُجّر من أرضه".  

 

هذه الانتفاضة الجارفة لمقاومة المجرم، ينفجر بركانها عندما تحين الفرصة، وهذا ما ورثه عن أبيه المعتقل السابق في سجون الاحتلال. لا معنى للجوء في أرضك وليس ثمّة معنى لاسم المخيم الفلسطيني إلا عندما تُرتكب فيه المجزرة، يصبح اسماً من أسماء المآسي في تاريخ الانسانية. 

 الشيخ مرسي بأفراد أسرته شكّل حضناً آمناً لنور مشهدي قبل انطلاقه لتنفيذ خطته في المشاركة ببعثة التنقيب المنطلقة من معهد أولبرايت، ولم يكتف الشيخ مرسي الأب الروحي للبطل بذلك، بل زوّر له صورته على الهوية الاسرائيلية التي سمحت له بتنفيذ المهمة والالتحاق ببعثة تنقيب معسكر الفيلق الروماني السادس قرب موقع مجدو الأثري. 

ثم العائلة الاسرائيلية القاطنة داخل أسوار المستوطنة التي دعته للطعام، الأم والأطفال فقط بينما الأب الطيار في الجيش الإسرائيلي ينفذ مهمة ضد أبناء السكان الأصليين للأرض.   

  

سؤال الهوية هو السؤال الأكبر، إذ أن القبول بالهوية الزرقاء هو ارتداء لقناع، وتحول مأساوي إلى مسخ في ظل عالم كولينيالي: " للاسم مناعة يا مراد وللقناع حصانة وأنا عثرت على قناع واسم لأتسلل من خلالهما إلى أعماق العالم الكولنيالي" ص 56. إذن هي الكولينيالية التي أنتجت الصهيونية، وما القضية الفلسطينية سوى نتاج مباشر لفشل الليبرالية الأوربية، إنها قضية الغرب بامتياز. ليبرالية مالية متوحشة. وهنا يدخل بطل الرواية في حالة حوار بينه وبين نفسه في كل زاوية من زوايا العمل وعند كلّ تقاطع حاد على مفارق الأسئلة الكبرى للرواية وما الإنسان على هذه البسيطة سوى سؤال يبحث عن إجابة؟  

حالة الفصام التي يعيشها نور بين كينونته وبذرته كفلسطيني لاجئ شرّدته طغمة من شذاذ الآفاق وبين القناع الذي يهيمن عليه و يتقمصه جلَّ نهاره ويهوي عليه بمطارق السؤال آناء الليل.   

القناع لم يعد ملامحه فحسب، بل امتد ليسري في هويته ويمزجها في هوية أخرى. وامتداداً لسؤال الهوية الوجودي ماذا يعني أن تكون لاجئاً في أرضك؟ "ستعيش حالة شعب يتضامن بعض منه مع بعض آخر يعاني من الاحتلال، ستكون ضيف شرف على النضال".  

 

حوار من نوع آخر تجنباً لتأنيب الضمير على شكل تسجيلات صوتية سترسل إلى مراد لكن مراد ما هو إلا صوت الضمير والحضن الحاوي لكل نزوات نور المشهدي. هو صمام الأمان الذي لجأ له نور ليوازن بين هويته الفلسطينية وبين خطر طغيان الهوية الأشكنازية وسطوة أور الذي تحول همسه المجنون مع نور إلى اتهامات وتقريع شنيع كونه تقمّص شخصيته زوراً وبهتاناً.  

يعلم نور أن شخصيته الأشكنازية التي تدرب على اتقان تلبسها، هي هوية طاغية ولها أفضليتها في لعبة صراع المجتمع الاسرائيلي وهيمنة يهود الأشكناز على يهود الشرق. وما أيالا (الغزالة) اليهودية السورية الحلبية سوى نموذج من رموز الصراع في هذه التركيبة الهجينة. تقابلها على محك الانتماء الفلسطينية سماء اسماعيل، ولكلّ اسم دلالته ولكلّ شخصية دورها في نسيج السرد. نقاء سماء وعدم اعترافها بأحقية الصهاينة المزعومة للعيش على أنقاض جثث أجدادها، يلعب دوراً مفصلياً في انقاذ نور من المقتلة التي وضع نفسه فيه وحذره منها والده الروحي الشيخ المقدسي. يتساءل: سماء اسماعيل مواطنة في دولة اسرائيل أم مقيمة أم ضيفة أم عابرة سبيل؟ المواطنة بحاجة إلى وطن.

  

في سؤال الهوية والانتماء، ماذا يعتبرنا الآخر؟ إننا مجرد معتقلين، أعداد بلا أسماء وبلا أرواح.  

يأتي الرد على السؤال الدفين على لسان سماء: أنا أنتظر عمراً بأكمله من أجل الخلاص من هذه الهوية وأما أنت فد خسرت عمرك كله لترتدي هذا القناع؟ هذه الهوية التي نكبتني.   

إنها النكبة المستمرة حتى وقت كتابة الرواية. نكبة شعب، بل شعوب، القضية قضية وقت: للوقت كثافة وجاذبية وكسل مسعور.  والوقت في أرض البحث عن المجدلية كان وقت أور لكنه في العمق هو وقت نور الفلسطيني صاحب الحكاية وصاحب الألماسة المدفونة وماهي إلا مسألة وقت وينفض عنها طين الزيف ليسطع بريقها على الملأ. هم مسعورون، ينبشون في التاريخ عن أي دليل مهما بلغت تفاهته، يثبت أحقيتهم في هذه الأرض ونحن لدينا الوقت كلّه وحجارتنا مازالت شاهدة على حياتنا وحياة أجدادنا هنا. هي قضية حي الشيخ جراح الملتهبة ولن يهدأ هذا السعار إلا بصواريخ المقاومة التي برّدت حرارتها على رؤوس المسعورين.   

  

الموقف الدرامي في الرواية فرض أن تكون المرأة هي الرمز، بينما نور هو الروح الساكنة في الجسد، المرأة هي حافز أساسي للتغيير أو عدمه وربما تحميه من نفسه ومن حماقاته، هكذا كانت سماء، الأنثى، الوطن. سماء اسماعيل نقشت على يدها تاريخ نكبة مدينتها ولولا ذلك لنقشت صور الفراشات والعصافير لتكون امرأة مثل نظيراتها في العالم "المتحضر" لكن قدر الأنثى على هذه الأرض أن تكون إلهة أو قديسة مجدلية تمسح أنبياء الله بعطر الناردين المقدّس.  

الوحدة القاتلة في السجن وربما العزلة عن العالم، فتحت المدى بعيداً لتعدد الأصوات في الرواية وربما تكون معظم الحوارات التي بناها الكاتب هي حوارات مع نفسه: نور يحادث نفسه. نور يصارع أور، نور يقوم بتسجيلات صوتية لمراد قد لا تصله لكنها يخاطب نفسه. وبهذه الثنائيات خلق باسم خندقجي سرداً ثورياً يواكب فن الرواية والسرد بموجاته الحديثة.    

 

ليست الندية فقط بأن تمتلك بندقيةً في وجه بندقية أو صاروخا في وجه قبة حديدية. الندية في المعرفة، في البحث، في التجريب. وما رواية المجدلية التي صنعت ايقاعاً زمنياً موازياً لإيقاع التزييف الحديث، ما هي إلا تجريب موفق تضافرت فيه شروط البحث التوثيقي مع عدم الإخلال بالعمل الروائي كمنتج أدبي. فجاءت الحكاية متناغمة ومنطقية في تدرج البحث وتقفي أثر مريم المجدلية مع المجريات والأحداث على أرض الواقع. وكأن التاريخ يعيد نفسه بلبوس آخر. ومريم المجدلية تدخل ضمن تفاصيل حرب التفاصيل. لكن البحث التاريخي حول مريم رآه نور المشهدي أعقد من أن يتابع فيه فهو بحاجة إلى بحث وتقصي، لذلك قرر تحويل البحث إلى رواية علّها تفنّد الادعاءات في رواية شيفرة دافنشي. هي المجدلية التي عبثوا بتاريخها وهكذا هم يحاولون الآن أن يعبثوا بتفاصيل معشوقة نور قدس الأقداس. 

  

الاغتراب الذي عاشه نور هو اغتراب وجودي للكاتب خندقجي نفسه، اغتراب يعيد فيه اكتشاف الروح، اكتشاف دواخله الحقيقية، السجن عرّى له كنوزه. ليعطي درساً مفاده أن الوطن قيمة وليس غنيمة.  

 ما جعل رواية قناع بلون السماء عملاً فارقاً في الرواية العربية هو انطلاق كاتبها من واقع محلي معاش. الكاتب تحوّل من شخص إلى نص مراهناً على القيم الوجودية الكبرى من خلال الأسئلة التي طرحها. ما جعلنا نركّز على فحوى الكلمات وليس الكلمات نفسها.

  

استطاع خندقجي من خلال "قناع بلون السماء" أن يلتقط الحقائق في وسطه ومن خلالها عالج القضايا القيمية والأخلاقية الكبرى. باسم تأتت له القدرة على أن يجلو الغباشة عن الواقع الملتبس الفريد في هذه البقعة الضيقة الصغيرة من العالم. أحالنا إلى مآلات الرواية كأداة للمعرفة والتأمل في الحياة، إلى ما وراء الحكاية، إلى الأسئلة. باسم تجاوز الأسلاك الشائكة وأجهزة الانذار المبكر ليسكن في لغته، في نصّه الذي شقّ السماء الزرقاء كالسّهم؛ والسهم متى انطلق لا يعود. 

 


 

*كاتب سوري/ فيينا.

 

 





تاريخ النشر ::7/20/2024 4:03:50 PM

أرشيف القسم

صفحاتنا على مواقع السوشيال ميديا