الوضع الداكن

مجاز الانتظار

مجاز الانتظار
رئيس تحرير فن ومدن للاعلام

مجاز الانتظار

طلال مرتضى*

 

الطريقُ الممتدَّةُ بين المنزلِ والعملِ طويلةٌ، والقطارُ لا يكفُّ عن زيارةِ المحطّاتِ التي بتُّ أحفظُها عن ظهرِ سفر.

الذاهباتُ نحوَ جهاتِ الفتنةِ كثيراتٌ، وابنُ الطريقِ يتلمَّسُ هذا عن كثبٍ، خصوصًا عندما يصطدمُ عطرُ امرأةٍ فادحةٍ بأخرى.

في بلادِنا، لا يزالُ نُحاةُ العصرِ يتحدَّثونَ عن صراعِ الحضاراتِ والصدمةِ الحضاريةِ، لم يُخبرْنا عالمٌ مُتنوِّرٌ عن صدامِ العطرِ بالعطر.

كعابرِ حبرٍ.. أراقبُ الوجوهَ بشراهةِ رجلٍ غارقٍ في بدويتِه، لا من بابِ الفجعِ الروحيِّ بل من بابِ الفراسة.

بيني وبيني، أُقارِنُ تصاويرَ الماضي بالحاضرِ، بحثًا عن خيطٍ مشتركٍ بينهما، فأفشل.

امرأةٌ طاعنةٌ في السّنِّ تجلسُ في المقعدِ المقابل، لم أتمكّنْ من قراءةِ تفاصيلِ وجهِها، كانت تُغطّيهِ بضفّتَي كتابٍ، يشي عنوانُه: “الحياةُ أجملُ من الجنّةِ”، بأنّها لم تزلْ على قيدِ الحُبِّ.

وعلى سيرةِ الحُبِّ، المرأةُ التي تُسنِدُ طرفَ مؤخّرتِها على عينِ كتفي، لم تتقصَّدْ أن تُرخيَ وِزرَ وزنِها عليَّ، أرادتْ أن تُعيدَ ارتكازَ روحِها قبلَ أن تترجَّل.

جُلُّ الرجالِ منشغلونَ بترّهاتِ هواتفِهم، ربّما كنتُ الوحيدَ فيما بينهم يُعيدُ ترتيبَ دفترِ الوجوهِ ما بين كلِّ محطّةٍ وأخرى.

أنا، وبكلِّ صراحةٍ، لا أُواربُكم الحقيقةَ المطلقةَ، أبي الطاعنُ في السّرِّ قال:

قلها وانطلقْ.

ثمّةَ امرأةٌ عاملةٌ ترتدي “فورمَ العمل” اللافتَ، وهي واقفةٌ، كانت منشغلةً بتعديلِ مزاجِ أحمرِ شفاهِها الفاقع، لم تقتنعْ بأثرِ قلمِ الحُمرة، لذا أطبقتْ شفتَها العليا على السفلى في محاولةٍ ناجحةٍ لتثبيتِ اللون.

على عفويّةِ روحي، انتبهتْ عليَّ حينَ وجدتني أَلعَقُ شفتيَّ بطرفِ لساني.

المسافةُ، كما أخبرتُكم، طويلةٌ، ونساءُ فيينا جميلاتٌ مثلها، النازلاتُ أو الصاعداتُ، حتى المرأةُ التي تقرأُ محطّاتِ الوصولِ في القطاراتِ، مذْ وصلتُ فيينا، ولها في حواسيَ من العِشقِ ما يكفي لألفِ ألفِ عمرٍ، أما قالوا: إنّ الأُذنَ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانًا؟!

هذا حالُ طريقِ دهشتي، امْلَئيني بألفِ عطرِ امرأةٍ غاويةٍ، وعندما أترجَّلُ في محطّتي الأخيرةِ، وكي أتأكّدَ من وصولي في الوقتِ المناسبِ، أُعايِنُ ساعةَ الوقتِ من شاشةٍ، فأجدني وجهًا لوجهٍ مع صورةِ امرأةٍ لا تُشبهُ أيًّا ممّنْ رأيتُهُنَّ، أحملُها منذُ أولِ فكرةِ حليبٍ تعلّمتُها.

 

*كاتب عربي/ فيينا.


كلمات البحث


الاكثر شهرة

أسئلة مباحة في زمن صعب!!

  أسئلة مباحة في زمن صعب!! رامة ياسر حسين*       هل حصلنا على الحرّيّة حقًّا أم زادت المسافات بيننا كبشر؟ ألم تعل...

سورية قادرة على النهوض من جديد!!

  سورية قادرة على النهوض من جديد!! فن ومدن*   في ليلة مفعمة بالمشاعر والأمل، اجتمع أبناء الجالية السورية والعربية لي...

"محمود حامد" الفلسطيني.. ينتظر عروجاً تالياً من "دمشق" إلى "بيسانه"!!..

  "محمود حامد" الفلسطيني.. ينتظر عروجاً تالياً من "دمشق" إلى "بيسانه"!!..   * درويش استلافاته كثيرة وكان يستفيض من بر...

مطار دمشق

أفضل طيران في العالم.. أول الواصلين إلى دمشق❤️   الخطوط الجوية القطرية تستأنف رحلاتها الجوية من الدوحة إلى دمشق ا...

تابعونا