الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!!

أ. ملاك صالح صالح
الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!!
ملاك صالح صالح*
قبل أن تبدأ رحلتنا في بحر الطفولة المُعنّفة، تمهّل قليلًا وخذ نفسًا عميقًا..
دعني أطلب منك شيئًا صغيرًا:
تخيّل طفلة.. لا تطلب شيئًا سوى أن تشعر بالأمان، أن يكون حولها صوت من موسيقى لا تخيف، وأن تمتد يدٌ لا لتهددها فقط، بل لتحتضن قلبها المرتبك.
عزيزي القارئ:
ليست كل الطفلات وُلدن في حضن الدفء، فثمة من جئن إلى هذا العالم بأجساد صغيرة، وأحلام مرتبكة، جئن ولكنهن لم يجدن كتفًا يُسند ارتباكهن، ولا صوتًا يُهدهد خوفهن.
في الطفولة، لا تطلب الأنثى أكثر من أمانٍ يُربّت على قلبها، ودفءٍ يجعل وجودها مقبولًا كما هو، دون شروط، دون قسوة، دون إلغاء.
وحين يُسلب منها هذا الأساس، تتشقق بداخلها تربة النفس، وتنبت فيها أسئلة بلا إجابات:
"هل أنا مرئية؟ هل أستحق أن أكون؟"
وهكذا تكبر الطفلة.. وفي داخلها امرأة تبحث، لا عن حبٍ كبير، بل عن مكان لا يُخيفها، ويد لا تُهددها، وصوت لا يُشبه الصراخ ولا التأنيب،
بل عن كتفٍ تُسند عليه قلبها، وآذانٍ تُصغي لبوحها، ويدٍ تربت على روحها لتقول لها: "كوني أنتِ.. فأنتِ قادرة على المستحيل
ماذا تعني الطفولة المعنفة؟
حين نقول "طفولة معنفة"، لا نعني فقط تلك الطفلة التي رُفع عليها الصوت، أو مُدّت نحوها يد القسوة، بل نعني أيضًا:
الطفلة التي لم تُحتضن عندما بكت، التي سُخِر من مشاعرها، التي سمعت: "عيب"، "اسكتي"، "ما لك قيمة"، أكثر مما سمعت: "أنا معك"، "أنا أراكِ"، "أنا أحبك كما أنتِ".
العنف ليس فقط ما يُرى، بل ما يُشعَر.
هو نظرة تهزّ ثقتها، هو صمتٌ بارد في لحظة كانت تحتاج فيها إلى كلمة.
هو تجاهل، هو تخويف، هو تحميل المسؤولية لجسدٍ صغير لا يعرف بعد معنى أن يُرضي العالم.
الطفولة المعنفة هي الزجاج الذي خدشت روحه قبل الجسد، وكسر الأمان قبل الألعاب.
وفي حالات كثيرة، يكون التعنيف نفسيًا أو عاطفيًا، لا يُرى بالعين، لكنّ الجسد يتذكره جيدًا
ذاكرة الجسد: حين يتحدث الألم بصمت
ربما تكبر الأنثى، يكبر جسدها، تتغير ملامحها، ويُخيّل للآخرين أنها "نسيت".
لكن الحقيقة المجربة تقول إن الجسد لا ينسى.
الجسد يسجّل، يحتفظ، يُخبّئ في عضلاته، في أنفاسه، في ضربات قلبه تلك التفاصيل الصغيرة التي نسيها العقل عمدًا لينجو.
كل صرخة خافتة اختنقت في حلقها، كل مرة ارتعدت فيها دون أن تجرؤ على البكاء، كل موقف شعرت فيه أنها غير محبوبة، غير مرئية، غير كافية..كل ذلك، يترسّب في الجسد، كأنه نقشٌ خفيّ على جدار القلب.
كما يقول الدكتور بيزل فان دير كولك في كتابه The Body Keeps the Score:
„Der Körper bewahrt die Geschichte vollständig, auch wenn wir sie im Geist vergessen.“
(الجسد يحتفظ بالقصة كاملة، حتى لو نسيناها بالعقل.)
هذه الصدمات المتراكمة قد تظهر لاحقًا على شكل:
قلق دائم بدون سبب واضح، توتر في عضلات الرقبة والكتفين، أرق مزمن، حساسية مفرطة تجاه النقد أو الصوت العالي، بل وأحيانًا.. نفور من الحب نفسه، كأنه خطر.
الطفلة المعنّفة التي لم تجد حضنًا آمنًا، تصبح امرأة تُخفي ارتجافها بابتسامة، لكنها وفي داخلها، تبحث عن كتف لا يخون، عن يد لا تَمدُّها لتُؤذي، بل لتطمئن.
كيف يمكن للأنثى أن تنجو من ذاكرة الجسد؟
لكن، وسط كل هذا الألم المختزن، هناك نور خافت لا ينطفئ.
هناك تلك الطفلة التي لم تُنسَ، والتي لا تزال تنادي بصوتٍ خافت داخل كل امرأة: "أنا أستحق الأمان.. أستحق الدفء.. أستحق أن أكون."
وفي تلك اللحظة بالذات، تبدأ رحلة الشفاء، رحلة استعادة الذات من بين أنقاض الذكريات المؤلمة، رحلة تتعلم فيها الأنثى أن تكون حاضرة، وتحب نفسها، وتُسمع صوتها.
النجاة ليست نسيانًا، بل هي فنّ التعايش، فن إعادة بناء الأمان الداخلي خطوة بخطوة.
وهنا بعض الطرق المدعومة علميًا والنفسياً للشفاء:
التواصل مع الجسد:
عبر تقنيات مثل "الوعي الجسدي" و"العلاج بالتجربة الجسدية" (Somatic Experiencing) التي تساعد على تحرير الطاقات المختنقة في العضلات والتوتر.
الكتابة التعبيرية:
التي تسمح بنقل الألم إلى الورق، وتخفيف العبء النفسي، وتعزيز فهم الذات.
العلاج النفسي والدعم الجماعي:
حيث تجد المرأة مساحة لتبوح وتسمع، وتُعيد ترتيب مشاعرها بعيدًا عن العزلة.
ممارسة التقبّل الذاتي واللطف مع النفس:
كأن تعلّمي الطفلة التي في داخلك أن تحتضن نفسها، وتقول لها:
"أنا هنا، وأنا آمنة."
كما تقول لويس هاي في كتابها You Can Heal Your Life:
„Wenn wir dem Kind in uns vergeben, lehren wir es, wieder zu atmen.“
(حين نغفر للطفلة في داخلنا، نعلّمها كيف تتنفس من جديد.)
في نهايه رحلتنا أرغب ان اقول إلى كل امرأة تحمل في قلبها طفلة لم تُحتضن، إلى كل روح تجرّعت الألم بصمت:
أنتِ أكثر من ذكرياتك، أكثر من جروحك، أنتِ قوة تتعلم كيف تُضيء عتمتها، ودفء يُعيد للحياة ألوانها.
لا تخافي أن تحتضني طفلتك داخلك، ففي ذلك الحُبِّ، هناك شفاء لا يُقاوم، هناك بداية جديدة..
تشرق فيها شمس الأمان، وتغنّي بها روحك نغمة الحرية.
*أخصائية علم نفس وكاتبة فلسطينية/ فيينا.


كلمات البحث
إقرأ أيضًا
وفد أمريكى يبحث التعاون فى المجالات الصناعية والتجارية مع "اقتصادية قناة السويس"
قرار المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي سياسة أم تمرير أهداف؟
الاكثر شهرة
أسئلة مباحة في زمن صعب!!
أسئلة مباحة في زمن صعب!! رامة ياسر حسين* هل حصلنا على الحرّيّة حقًّا أم زادت المسافات...
سورية قادرة على النهوض من جديد!!
سورية قادرة على النهوض من جديد!! فن ومدن* في ليلة مفعمة بالمشاعر والأمل، اجتمع أبناء الجالية...
"محمود حامد" الفلسطيني.. ينتظر عروجاً تالياً من "دمشق" إلى "بيسانه"!!..
"محمود حامد" الفلسطيني.. ينتظر عروجاً تالياً من "دمشق" إلى "بيسانه"!!.. * درويش استلافاته كثي...
مطار دمشق
أفضل طيران في العالم.. أول الواصلين إلى دمشق❤️ الخطوط الجوية القطرية تستأنف رحلاتها الجوية...