الوضع الداكن

فن اغتصاب العقول

فن اغتصاب العقول
د. تمام كيلاني

 

فن اغتصاب العقول

 

د. تمام كيلاني*

 

مقدمة

في عالم يزعم أنه يقدّس الحرية، تُغتصب العقول يوميًا دون ضجيج ولا مقاومة.

يُمارَس هذا الاغتصاب لا عن طريق العنف الجسدي، بل عبر أدوات ناعمة: الإعلام، التعليم، الإعلانات، الدين المؤدلج، الخطاب السياسي، وحتى الفن والترفيه.

فن اغتصاب العقول هو تحويل الإنسان من كائن حرّ إلى عبد مقتنع بأن عبوديته اختيار شخصي.

ما هو اغتصاب العقول؟

اغتصاب العقول هو عملية غسل ممنهجة للوعي، تُقنع الفرد بأن ما يعتقده نابع من نفسه، بينما هو في الحقيقة نتيجة زرع خارجي مبرمج.

هو “استعمار داخلي” يجعل الضحية تدافع عن الجلاد، وتمجّد القيود، وتخاف من فكرة الحرية.

أدوات السيطرة على الوعي

 

  1. الإعلام

وسائل الإعلام لا تنقل الحقيقة، بل تصنع واقعًا بديلاً يُعاد بثّه وتكراره حتى يصبح “الطبيعي”.

  1. التعليم

المنظومات التعليمية في كثير من بلداننا تُعاقب السؤال، وتكافئ الحفظ، وتصنع أفرادًا مطيعين لا ناقدين.

  1. الدين والسياسة

حين يُدمج الخطاب الديني بالسياسي، يصبح الطاغية مظللًا بهالة من القداسة، وأي معارضة له كفر أو فتنة.

  1. الفن والترفيه

حين يصبح الفن أداة تطبيع وخضوع، ويتحوّل الفنان إلى بوق، يتحول الفن من تعبير حرّ إلى وسيلة ترويض جماعية.

 

مراحل اغتصاب العقول

  1. التمهيد: تجويع فكري وفراغ معرفي.
  2. الإغراق: تكرار الرسائل والشعارات.
  3. التحييد: قمع أو تشويه الأصوات المعارضة.
  4. الاستسلام: قبول الكذبة بوصفها حقيقة.

 

اغتصاب العقول في سوريا: البعث يصنع قاعدة مطيعه .

منذ انقلاب حزب البعث في سوريا عام 1963، ثم وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، بدأت إحدى أبشع عمليات اغتصاب العقول في التاريخ المعاصر.

التعليم

المناهج غرست في التلاميذ أن القائد “خالد إلى الأبد”، وأن حزب البعث هو نور المستقبل، وأن الوطن لا يُختزل إلا في صورة الزعيم.

الإعلام

كانت نشرات الأخبار تبدأ وتنتهي بصورة “القائد”، يُقدَّم فيها الواقع بصفته “انتصارًا أبديًا”، حتى في أشد لحظات الانهيار.

الدين

السيطرة على الخطاب الديني كانت محكمة، حيث تحوّل بعض علماء الدين إلى أبواق تمجيد وطاعة.

الخروج عن الطاعة صار خروجًا عن الدين، والمعارضة صارت “مؤامرة كونية”.

الفن

رغم بروز الدراما السورية، إلا أنها كثيرًا ما كانت خاضعة لرقابة مشددة.

النكتة السياسية كانت جريمة أمن دولة، والمسرح ممنوع من كسر الجدار الرابع.

النتيجة: عبودية مقدسة

      خُلق جيل يرى في الأسد رمزًا أبديًا، ويهتف له كما لو كان نبيًا.

      تم محو الشخصية الفردية، وزُرع الخوف حتى من التفكير بصوت مرتفع.

      وصل الاغتصاب الذهني إلى أن أفرادًا دافعوا عن النظام حتى وهم يُقصفون ويُذبحون.

 

وعندما حاول الناس استرداد عقولهم

في عام 2011، خرج السوريون مطالبين بـ”الحرية”، لا إسقاط النظام فقط، بل إسقاط آلة الغسيل التي سلبت وعيهم لعقود.

لكن النظام ردّ بأقصى درجات العنف:

السجون، البراميل، الكيماوي، التجويع، والنفي… لأن من يغتصب العقول لا يقبل فكرة استيقاظ الضحية.

 

 

أمثلة عربية وعالمية أخرى

      إعلام يصوّر الاحتلال “تحريرًا”، والطاغية “مصلحًا”.

      جيوش من المؤثرين تروّج للسطحية بوصفها نمط حياة.

      أنظمة تصنع “عدوًا خارجيًا دائمًا” لشرعنة قمعها الداخلي.

 

الكراهية الرقمية: حين نغتصب عقولنا بأنفسنا

في زمن التواصل الاجتماعي، ظهرت أداة جديدة في فن اغتصاب العقول: الفيديوهات الطائفية والتحريضية التي تنتشر كالنار في الهشيم.

أصبح تداول هذه الفيديوهات اليومية عادةً لدى الكثيرين، وغالبًا ما تكون:

      مشبعة بالكراهية والانفعال.

      مجتزأة أو مفبركة لتأجيج مشاعر الجماعة ضد الأخرى.

      تحرّض كل فرد على التمترس خلف طائفته أو عشيرته أو حزبه.

والنتيجة المرعبة: صديق الأمس يصبح عدو اليوم، ليس لأن شيئًا تغيّر فعليًا، بل لأن مقطعًا مفبركًا أو خطابًا تحريضيًا أعاد تشكيل وعينا ولغّم وجداننا.

إنها ليست فقط حربًا على الحقيقة، بل تفتيتٌ للنسيج الاجتماعي، وتدميرٌ مشترك نشارك فيه بأيدينا، حين نعيد نشر هذه المواد دون تمحيص، ونغذي بأنفسنا آلة الكراهية التي طالما شكونا منها.

كيف نحمي عقولنا؟

      بسؤال كل شيء: لا تُسلّم بأي رواية دون مساءلة.

      بالتفكير النقدي: فحص الرسائل والخطاب بدل ترديدها.

      بالتعليم الحر: دعم المدارس والجامعات المستقلة.

      بالفن المتمرد: الذي يزعج لا يُخدّر، ويوقظ لا يُجمّل.

 

مسؤولية من آمنوا بالثورة

على الذين آمنوا بالحرية ووقفوا مع الثورة في بداياتها، أن يتحلّوا اليوم بشجاعة المراجعة.

ليس المطلوب التخلّي عن المبادئ، بل التنبّه للواقع المتحوّل، ولماكينات الإعلام الجديدة التي تحاول إعادة اغتصاب العقول، ولكن هذه المرة بلونٍ آخر، وبخطابٍ يبدو أكثر نعومة لكنه لا يقلّ خطورة.

علينا الحذر من الفيديوهات المفبركة، ومن حملات التضليل التي تُلبس الباطل لبوس الوطنية، وتروّج لخطاب “المصالحة” دون عدالة، و”الاستقرار” دون حرية.

إن إعادة بناء سوريا لا تعني تبييض صفحة النظام الذي دمّرها، لكنها تتطلب عقلًا مفتوحًا يميّز بين النقد البنّاء والتخوين، وبين المصالحة القائمة على الحقيقة وتلك المبنية على نسيان الجريمة.

التحرر لا يكون فقط من الأسد، بل من كل آلة تضليل تُهدف إلى تدمير سوريا الجديده، سوريا التي اعادت للمواطن حريته وكرامته.

خاتمة

فن اغتصاب العقول لا يُمارس فقط من فوق، بل أحيانًا تُمارسه الدهماء ( العامه) على نفسها، حين ترفض أن تفكر، وتفضل الراحة على الحرية، والزعيم على الذات.

إنه ليس مجرد تلاعب بالعقول… بل إعدام بطيء للكرامة والوعي.

 

*رئيس اتحاد الأطباء والصيادلة العرب بالنمسا.


كلمات البحث

إقرأ أيضًا

أخبار عامة

الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!!

الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!!
أخبار عامة

“على العهد”.. بعدسة واحدة.. سيرة وطن وقائد

“على العهد”.. بعدسة واحدة.. سيرة وطن وقائد
أخبار عامة

وفد أمريكى يبحث التعاون فى المجالات الصناعية والتجارية مع "اقتصادية قناة السويس"

وفد أمريكى يبحث التعاون فى المجالات الصناعية والتجارية مع "اقتصادية قناة السويس"
أخبار عامة

قرار المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي سياسة أم تمرير أهداف؟

قرار المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي سياسة أم تمرير أهداف؟


الاكثر شهرة

أسئلة مباحة في زمن صعب!!

  أسئلة مباحة في زمن صعب!! رامة ياسر حسين*       هل حصلنا على الحرّيّة حقًّا أم زادت المسافات...

سورية قادرة على النهوض من جديد!!

  سورية قادرة على النهوض من جديد!! فن ومدن*   في ليلة مفعمة بالمشاعر والأمل، اجتمع أبناء الجالية...

"محمود حامد" الفلسطيني.. ينتظر عروجاً تالياً من "دمشق" إلى "بيسانه"!!..

  "محمود حامد" الفلسطيني.. ينتظر عروجاً تالياً من "دمشق" إلى "بيسانه"!!..   * درويش استلافاته كثي...

مطار دمشق

أفضل طيران في العالم.. أول الواصلين إلى دمشق❤️   الخطوط الجوية القطرية تستأنف رحلاتها الجوية...

تابعونا