الله – الأنا – الآخر: ترتيب الأولويات ومسار الحرية الداخلية

الله – الأنا – الآخر: ترتيب الأولويات ومسار الحرية الداخلية

الله – الأنا – الآخر: ترتيب الأولويات ومسار الحرية الداخلية

د. تمام كيلاني

في عالم اليوم، يشتكي كثير من الشباب من شعور دائم بالتعب النفسي والازدواجية بين ما يؤمنون به وما يعيشه واقعهم اليومي. يتساءل الكثيرون: لماذا أشعر أن حياتي مليئة بالتناقض؟ لماذا أجد صعوبة في أن أكون صادقًا مع نفسي ومع الآخرين؟ ولماذا يبدو رضا الناس أحيانًا أهم من قناعاتي؟

الحقيقة أن هذه المشكلات ليست وليدة الآخرين، بل غالبًا تبدأ من الداخل، من ترتيب أولوياتنا الداخلية بين الله، والذات، والآخرين. يمكن اختصار هذا الترتيب في ثلاثية أساسية: الله – الأنا – الآخر، التي تحدد نوعية علاقاتنا وصدقنا في الحياة اليومية، وتبرز أهميتها بشكل خاص في مهن تتطلب مسؤولية عالية وحسًا إنسانيًا عميقًا، مثل الطب والجراحة.

أولًا: الله، المرجعية العليا

الله ليس مجرد شعار نرفعه بالكلام، ولا رمزًا دينيًا نختبئ خلفه، بل هو المرجعية الحقيقية لكل فعل وقرار. يقول الله تعالى:
﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾

الإيمان الخالص يعني أن تكون قيمنا وأفعالنا نابعة من الله وحده، لا من مزاج الآخرين، ولا من رغباتنا العابرة. حين يغيب هذا البعد، تتحول القرارات إلى مصالح اجتماعية أو محاولات للتوافق، ويصبح الدين مجرد هوية ظاهرية بلا أثر على الواقع النفسي أو الأخلاقي.

علماء النفس يشيرون إلى أن الإنسان الذي يفتقد مرجعية عليا غالبًا ما يعاني من اضطراب القيم الداخلية، ويصبح عرضة للضغط الاجتماعي والقلق المزمن. في حياة الطبيب والجراح، هذه البوصلة الروحية أساسية، لأنها تجعل الضمير، لا الضغوط أو المكاسب، هو الحاكم النهائي لكل قرار طبي.


ثانيًا: الأنا، الذات الواعية والمسؤولة

الإسلام لا ينكر قيمة الأنا، بل يمنحها مسؤولية واعية:
﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾

الخلافة تعني أن الإنسان فاعل حر، يمتلك القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وأنه مسؤول عن اختياراته. فالأنا الواعية تعرف متى تقول “نعم” ومتى تقول “لا”، وتتحمل تبعات اختياراتها. يقول الله تعالى:
﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾

علماء النفس مثل كارل روجرز يؤكدون أهمية الذات الحقيقية، وهي حالة يكون فيها الإنسان صادقًا مع نفسه دون ضغط خارجي. هذا المفهوم يتقاطع مع تجربة الطبيب والجراح: وهذا ماقاله الجراح النمساوي تيودور بيلروث قبل 150 عاما وقبل أي قرار حاسم، يجب أن يسأل نفسه صراحة:
“هل سأقوم بهذا الإجراء لو كان الأمر يتعلق بأحد أحبائي، بوالدي مثلاً؟”

هذا السؤال، الذي استخدمه الجراح بيلورث، يجسد تمامًا فكرة الأنا الواعية والمسؤولة، حيث يكون الضمير والضمير الإنساني هما المعايير العليا، وليس المصلحة أو التوقعات الاجتماعية أو المهنية.


ثالثًا: الآخر، الشريك لا المرجع

الآخرون مهمون، يجب احترامهم والتعامل معهم بمحبة، لكنهم ليسوا مرجعًا أعلى من الحق. يقول الله تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾

احترام الآخر لا يعني التضحية بالضمير أو تحويل رأي الناس إلى معيار للحق. فحين نضع رضا الناس فوق الحق، نفقد حريتنا الداخلية، ونعيش حياة مزدوجة، لا نكون صادقين فيها مع أنفسنا ولا مع الآخرين.

في المجال الطبي، احترام المريض واجب، لكن الضمير والحياة البشرية يجب أن تبقيا فوق كل اعتبار. السعي المفرط لإرضاء الآخرين، حتى المرضى أو الزملاء، قد يضعف القدرة على اتخاذ القرار الصحيح ويؤدي إلى نتائج كارثية. القرآن يحذر من هذا الانحراف:
﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ﴾

رابعًا: الامتحان اليومي

الإيمان والضمير لا يُختبران بالشعائر الكبرى فقط، بل في المواقف اليومية الصغيرة:
-مزحة بين الأصدقاء
-ضغط جماعي لممارسة سلوك مخالف للضمير
-موقف طبي يحتاج إلى قرار صائب وصادق

حتى الجراح يواجه هذا الامتحان: هل يجري العملية؟ هل يتبع البروتوكول أم يميل لضغط خارجي؟ هنا يظهر الاختبار الحقيقي للضمير: وهو اختبار الثلاثية المقدسة: الله أولًا، الأنا مسؤولة، والآخر محترم ولكن ليس المرجعية العليا.

خامسًا: إعادة ترتيب الثلاثية

الترتيب الصحيح هو:
1. الله أولًا: المرجعية العليا والضابط للقيم
2. الأنا ثانيًا: ذات واعية مسؤولة، تعرف الحق من الخطأ
3. الآخر ثالثًا: شريك في الحياة، لكنه لا يحكم الضمير

بهذا الترتيب، نعيش حياة متوازنة، صادقة مع أنفسنا، ومريحة داخليًا، ونحافظ على علاقاتنا مع الآخرين بلا تنازل عن الحق. ونحقق بذلك مقاصد الشريعة:
-حفظ الدين: بالتمسك بالمرجعية العليا
-حفظ العقل والضمير: بالوعي الذاتي وقدرة اتخاذ القرار الحر
-حفظ الكرامة: بعدم الانصياع للتوقعات الاجتماعية المضللة
-حفظ الحرية الداخلية: بالتحرر من الضغوط النفسية والاجتماعية

الخلاصه:

أزمة الشباب، وبالأخص الأطباء والجراحين، ليست في نقص القيم، بل في اختلال ترتيب المرجعيات الداخلية. حين نضع الله أولًا، ونثق بضميرنا، ونتعامل مع الآخرين بصدق واحترام، تتحقق الحرية الداخلية، ونصبح قادرين على اتخاذ القرارات الصحيحة، حتى في أصعب اللحظات الحياتية والمهنية.

إن تقدير الله في حياتنا اليومية، والوفاء لضميرنا الإنساني، لا يجعلنا ضد الناس، بل يجعلنا صادقين، حقيقيين، وأقوى أمام كل اختبار، صغيرًا كان أو كبيرًا.

كما يذكّرنا قسم أبوقراط: الطبيب مسؤول أولًا عن الإنسانية، وعن حياته المهنية والضميرية بنفس القدر، قبل أي اعتبار آخر.

 

*رئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب في النمسا


تعليق / الرد من

إقرأ أيضًا

الثقافة والأدب

دع الأيام تفعل ما تشاء.. وطِب نفسًا إذا حكم القضاء

دع الأيام تفعل ما تشاء.. وطِب نفسًا إذا حكم القضاء
الثقافة والأدب

للنجاح قصة – رؤية أكاديمية في مسيرة الطبيب بين المهنة والعمل الإغاثي

للنجاح قصة – رؤية أكاديمية في مسيرة الطبيب بين المهنة والعمل الإغاثي


الاكثر شهرة

تابعونا


جارٍ التحميل...