الوضع الداكن

مجزرة سربرنيتسا: ثلاثون عامًا وما زال الجرح مفتوحًا (1995 - 2025)

مجزرة سربرنيتسا: ثلاثون عامًا وما زال الجرح مفتوحًا (1995 - 2025)
د. تمام كيلاني رئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب في النمسا

 

مجزرة سربرنيتسا: ثلاثون عامًا وما زال الجرح مفتوحًا (1995 - 2025)

د. تمام كيلاني*

 

ثلاثون عامًا مرّت، ولا تزال الكلمات عاجزة عن احتواء هول الفاجعة، ولا تزال الإنسانية مصلوبة عند عتبة سربرنيتسا. ليست ذكرى عابرة، بل وصمة لا تمحوها السنوات، وجرحًا مفتوحًا في ضمير العالم. هنا لا نتحدث فقط عن ماضٍ مؤلم، بل عن حاضر تتكرر فيه ذات الأنماط: صمت دولي، وعدالة غائبة، وضحايا بلا أسماء في قواميس الأقوياء.

في كل مرة تُذكر فيها سربرنيتسا، يُستدعى سؤال أكبر من المكان والزمان: كيف يمكن أن تُرتكب الإبادة على مرأى ومسمع العالم، ثم تستمر الحياة كأن شيئًا لم يكن؟ هذه الذكرى ليست محطة تأمل فقط، بل نداء أخلاقي لا يسقط بالتقادم: من أجل ذاكرة الضحايا، ومن أجل مستقبل لا يعاد فيه إنتاج الجريمة ذاتها بأسماء جديدة

الموقع والزمان:

      المكان: سربرنيتسا، شرق البوسنة والهرسك، قرب الحدود مع صربيا.

      التاريخ: بين 11 و22 يوليو / تموز 1995، أثناء حرب البوسنة (1992–1995).

خلفية تاريخية:

أعلنت الأمم المتحدة سربرنيتسا “منطقة آمنة” في أبريل 1993 لحماية السكان البوشناق (المسلمين)، لكنها لم تحمهم. على العكس، سقطت المنطقة في يد القوات الصربية بقيادة راتكو ملاديتش وسط صمت مخزٍ من قوات الأمم المتحدة الهولندية التي كانت متمركزة لحماية المدنيين.

تفاصيل المجزرة:

      إعدام أكثر من 8372 رجلًا وصبيًا مسلمًا تتراوح أعمارهم من 12 سنة فما فوق.

      فصل عنيف بين النساء والأطفال من جهة، والرجال من جهة أخرى.

      دفن جماعي ثم إعادة نبش القبور في محاولة لإخفاء الجريمة.

      النساء والأطفال رحّلوا قسرًا في ظروف مذلة، غالبًا مع تهديد أو اعتداء.

المجرمون والعدالة الدولية:

      راتكو ملاديتش ورادوفان كاراديتش، المدبران الرئيسيان، حُكم عليهما بالسجن المؤبد من قبل محكمة لاهاي.

      رغم ذلك، ما زال بعض الضالعين أحرارًا، والعديد من الدول تجاهلت نداءات تسليم المتهمين.

دور الأمم المتحدة:

      فشل ذريع للقوات الهولندية والأمم المتحدة في التدخل.

      رفض تسليح المدنيين أو الدفاع عنهم.

      لاحقًا، اعترفت هولندا جزئيًا بمسؤوليتها واعتذرت رسميًا.

الربط المعاصر: سربرنيتسا، غزة، سوريا – خيوط الإبادة وموت الضمير

  1. غزة: الإبادة أمام أعين العالم (2023–2025)

      القصف الممنهج والقتل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك النساء والأطفال، يشبه إلى حد بعيد ما جرى في سربرنيتسا، لكن هذه المرة على الهواء مباشرة.

      سياسة الحصار والتجويع والتدمير الشامل للبنية التحتية تتجاوز جرائم الحرب إلى أعمال تطهير عرقي واضحة، يصمت عنها المجتمع الدولي بل ويبررها أحيانًا.

      الفصل المتعمد بين المدنيين والمقاتلين غير ممكن في غزة بسبب طبيعتها الجغرافية، لكن ذلك لم يمنع آلة الحرب الصهيونية من استهداف الجميع دون تمييز.

      تمامًا كما حدث في سربرنيتسا، القوة المحتلة تتصرف فوق القانون، بينما الأمم المتحدة والمجتمع الدولي عاجزون أو متواطئون.

  1. سوريا: إبادة موثّقة بلا عقاب (2011–2024)

      تحت حكم بشار الأسد ووالده حافظ، وقعت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية موثقة، أبرزها:

      مجزرة حماة (1982).

      قصف المدن بالبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي.

      تعذيب وقتل مئات الآلاف في المعتقلات (وثائق قيصر نموذجاً).

      كما في سربرنيتسا، تم توثيق الجرائم بالأدلة والصور والشهادات، لكن:

      لا محاسبة حقيقية.

      الأسد لا يزال في حرا طليقا بدعم من روسيا

      مقابر جماعية، ومختفون قسرًا، وناجون بلا عدالة.

الرسالة الأخلاقية والسياسية:

مجزرة سربرنيتسا لم تكن لحظة استثنائية، بل نموذجًا مكرّرًا.

هيكلية المجازر واحدة:

      شيطنة جماعة مستهدفة.

      فصل قسري وإبادة جماعية.

      تواطؤ أو عجز دولي.

      إنكار أو تبرير من الجناة.

      تباطؤ العدالة أو غيابها.

 

الفرق الوحيد أن الأدوات اختلفت، لكن الجريمة واحدة:

      في سربرنيتسا، كانت البنادق والمقابر.

      في غزة، الطائرات والقصف العشوائي.

      في سوريا، الكيماوي والبراميل والسجون.

ثلاثون عامًا مرّت على مجزرة سربرنيتسا، لكن الضمير الإنساني لم يستيقظ.

تتكرر المجازر، ويتغير الجناة، ويبقى الضحايا ينتظرون عدالة مؤجلة، واعترافًا مستحقًا، وإدانة لا تتجزأ.

ما لم يتحقق في سربرنيتسا، لا بد أن يتحقق في غزة .

عدالة، ووقف للجرائم، ومسؤولية دولية لا تعرف الكيل بمكيالين.

ثلاثون عامًا مرّت على سربرنيتسا، ولكن الجرح لم يندمل، لا لأن الألم طويل، بل لأن العدالة لم تتحقق، ولأن الجريمة تتكرّر بأشكال جديدة وأماكن مختلفة، وسط صمت عالمي مشين، بل وتواطؤ أحيانًا.

إلى العالم الغربي

كفى صمتًا. وخاصة على المجازر في غزه لا يجوز أن نظلّ أسرى البيانات الخجولة والمواقف الرمادية. القضايا العادلة لا تُنصر بالحياد، والدم لا يُغسل بالصمت. إن لم يكن لنا موقف اليوم، فمتى؟ وإن لم يكن منّا صوت، فممّن؟

وإلى أمريكا، التي تدّعي قيادة العالم الحر:

إنّ الحرية لا تُجزأ، والعدالة لا تُمنح بانتقائية. آن الأوان أن تنزعوا عن أعينكم غشاوة المصالح، وأن تسمعوا صوت الضحايا قبل ضجيج السلاح. التاريخ لا ينسى، والشعوب لا تغفر، والكيل بمكيالين هو البذرة الأولى لكل مجزرة.

إلى العالم اجمع

آن للضمير العالمي أن يصحو من سباته الأعمى العميق، وأن يصدح بصوت الحق لا بقوة السلاح. آن لهذا العالم أن يتعلم، لا أن يكرّر. فالمجزرة التي لا تُدان بوضوح، ستُعاد بحذافيرها في مكانٍ آخر، وعلى أجساد أبرياء آخرين.

العدالة ليست رفاهية… بل هي امتحان أخلاقي لا يزال العالم يرسب فيه

 

*رئيس اتحاد الأطباء والصيادلة العرب في النمسا.


إقرأ أيضًا

بوابة فيينا

لقاء عيد الفطر باتحاد الأطباء العرب بالنمسا

لقاء عيد الفطر باتحاد الأطباء العرب بالنمسا
بوابة فيينا

إفطار رمضاني لعوائل الأطباء العرب بالنمسا

إفطار رمضاني لعوائل الأطباء العرب بالنمسا
بوابة فيينا

البيت السوداني في (فال) والحضور إشارات!!

البيت السوداني في (فال) والحضور إشارات!!
بوابة فيينا

الهيئة الأردنية الأوربية العليا.. تجمعنا في فيينا

الهيئة الأردنية الأوربية العليا.. تجمعنا في فيينا
بوابة فيينا

إفطار عربي جامع باتحاد الاطباء العرب بالنمسا

إفطار عربي جامع باتحاد الاطباء العرب بالنمسا


الاكثر شهرة

أسئلة مباحة في زمن صعب!!

  أسئلة مباحة في زمن صعب!! رامة ياسر حسين*       هل حصلنا على الحرّيّة حقًّا أم زادت المسافات بيننا كبشر؟ ألم تعل...

سورية قادرة على النهوض من جديد!!

  سورية قادرة على النهوض من جديد!! فن ومدن*   في ليلة مفعمة بالمشاعر والأمل، اجتمع أبناء الجالية السورية والعربية لي...

"محمود حامد" الفلسطيني.. ينتظر عروجاً تالياً من "دمشق" إلى "بيسانه"!!..

  "محمود حامد" الفلسطيني.. ينتظر عروجاً تالياً من "دمشق" إلى "بيسانه"!!..   * درويش استلافاته كثيرة وكان يستفيض من بر...

مطار دمشق

أفضل طيران في العالم.. أول الواصلين إلى دمشق❤️   الخطوط الجوية القطرية تستأنف رحلاتها الجوية من الدوحة إلى دمشق ا...

تابعونا