سوريا بين عهدين… من دولة القانون إلى دولة الخوف!!
د. تمام كيلاني
سوريا بين عهدين… من دولة القانون إلى دولة الخوف!!
أو سوريا… بين هاتفٍ يعتذر لرئيس، وصوتٍ تحرّر من الخوف
قراءة سياسية–تاريخية عبر حكاية عبد السلام العجيلي والرئيس ناظم القدسي
د. تمام كيلاني*
مقدمة
ليست الحكايات الصغيرة مجرد ذكريات تُروى، بل كثيرًا ما تكون مفاتيح لقراءة تاريخٍ كامل.
وهكذا هي قصة الدكتور عبد السلام العجيلي مع موظفة الهاتف، والرئيس ناظم القدسي: مفارقة تبدو بسيطة، ولكنها تسلط الضوء على انقلاب في منظومة الدولة السورية، من زمن كانت فيه الكلمة محترمة، والقانون أعلى من الشخص، إلى زمن صار فيه الشخص هو القانون… وصار القانون ورقة لا قيمة لها.
هذا النص ليس مجرّد سرد لحادثة، بل محاولة لفهم كيف تغيّرت سوريا، ولماذا وقعت بين يدي حزبٍ واحد، ثم عائلة واحدة، وكيف يمكن لها — بعد التحرير — أن تستعيد ما فقدته: الحرية، والكرامة، والإنسانية.
الفصل الأول: عبد السلام العجيلي… المثقف الذي حمل وجهين لسوريا
عاش العجيلي (1918–2006) زمنين مختلفين تمامًا:
-الأول: سورية الجمهورية الأولى، ببرلمانها، ونخبها المدنية، وتقلّب حكوماتها، ولكن مع وجود حدّ أدنى من احترام الدستور والفصل بين السلطات.
-الثاني: سورية البعث، حيث صارت السياسة ممحاة، والفكر جريمة، والكلمة مشروع خطر.
كان العجيلي طبيبًا، وسياسيًا، وأديبًا، ووزيرًا، لكنه كان قبل كل شيء إنسانًا حرًا.
وأكثر ما سجّل هذا الرجلُ الحرّ في ذاكرته لم يكن قرارًا حكوميًا، ولا اجتماعًا وزاريًا، بل مكالمة هاتفية.
الفصل الثاني: القدسي… رئيس في دولة ما قبل الاستبداد
عام 1962، كان الرئيس ناظم القدسي يقود البلاد في فترة حساسة بعد الانفصال عن عبد الناصر.
ورغم كل الانتقادات التي يمكن توجيهها للحياة السياسية آنذاك، فإن سوريا كما عشتها بقيت:
-دولة فيها صحافة،
-ومعارضة نيابية،
-وقضاء مستقل ،
-ورئيس جمهورية لا يتجاوز حدود منصبه.
في تلك الفترة، انتقل العجيلي إلى منزل جديد وغيّر رقمه الهاتفي. وعندما حاول القدسي الاتصال به، واجه مشهدًا يكاد يبدو خياليًا لمن يعرف سوريا اليوم:
رئيس الجمهورية يتصل عبر البدّالة، فيجيبه صوت موظفة بسيطة:
«لا أستطيع إعطاء الرقم إلا بعد أن أستأذن الدكتور.»
فتتصل به قائلة:
«دكتور، هل تسمح أن أعطي رقمك لفخامة الرئيس؟»
لم يكن القدسي “قائدًا”، ولا “زعيمًا تاريخيًا”، ولا “قائدًا خالدًا”.
كان موظفًا عامًا، يخضع للدستور والنظام الإداري… حتى أمام موظفة هاتف.
هذه اللحظة — كما فهمها العجيلي — تلخص طبيعة الدولة السورية قبل 1963:
دولة ضعيفة سياسيًا، لكنها ليست دولة قمع.
الفصل الثالث: 8 آذار 1963… الانقلاب الذي غيّر المعنى
لم يكن انقلاب البعث مجرد انتقال للسلطة، بل كان انعطافًا في بنية الدولة نفسها:
١– نهاية السياسة
ألغيت الأحزاب، وحُلّ البرلمان، ولم يعد هناك رأي أو نقاش.
صار “الرفيق” أهم من الوزير، وأعلى من الخبير، وأقوى من القاضي.
٢– صعود الأجهزة الأمنية
صار الهاتف الذي كان يخضع لـ”إذن الموظفة” مراقَبًا، وصار كل اتصال يمكن أن يكون ملفًا أمنيًا.
٣– بداية عسكرة المجتمع
صار الجيش هو من يقرر، ثم صارت الأجهزة هي من تقرر، ثم صارت العائلة هي من تقرر.
٤– إلغاء الفرد
لم يعد المواطن “فردًا”، بل أداة في خدمة سلطة مركزية تحتكر الوطنية، والإعلام، والتاريخ، والذاكرة.
ومع الزمن، لم يبقَ من سوريا إلا اسمها.
تحوّل البلد إلى سجن كبير، وصار الناس يعرفون أن الصمت أحيانًا أذكى من الكلام.
الفصل الرابع: حين روى العجيلي الحكاية بعد ربع قرن
في إحدى الأمسيات الثقافية في دمشق، وقف العجيلي ليحكي قصة الاتصال الهاتفي.
ضحك الحضور، لكن المحامي نجاة قصاب حسن—الرجل الذي كان يحاور السلطة بذكاء وخبرة—اقترب منه وقال:
أبو سلام… لا تروِ هذه القصة الآن.
أيام القدسي انتهت… والآن إذا قلت الحقيقة، قد تُحاسب عليها وترمى في غياهب السجون .
كانت هذه الجملة درسًا سياسيًا مختصرًا:
في عهد القدسي، كانت الحقيقة حرّة.
في عهد البعث، أصبحت الحقيقة محظورة.
وهكذا، عبر تعليقٍ بسيط، صار الفرق بين الدولتين واضحًا:
من دولةٍ كان فيها القانون سيدًا… إلى دولةٍ صار فيها الخوف سيدًا.
الفصل الخامس: من حكم البعث إلى حكم الأسدين… تضخم الخوف
عندما استلم حافظ الأسد السلطة عام 1970، بدأ فصل جديد:
فصل ترسيخ الخوف.
-صار الحزب قائدًا للدولة والمجتمع.
-صار الجيش ذراعًا سياسية.
-صارت الأجهزة الأمنية فوق الدستور والقانون.
-صارت كلمة “لا” تُكلف صاحبها سنوات من الاعتقال.
-وصارت سوريا مزرعة سياسية، وليست جمهورية.
ثم ورث الابن الحكم من الأب في مشهد انسحقت فيه كرامة الشعب أمام توريث غير معلن لدولة كاملة.
أيّ انحدار هذا؟
من دولةٍ ورئيسٍ يستأذن موظفة هاتف…
إلى دولةٍ يخاف فيها الشعب من همساته في بيته!
الفصل السادس: سوريا بعد التحرير… أمل لا يمكن اغتياله
رغم كل هذا الظلام، فإن السوريين لم يفقدوا جوهرهم:
لم يفقدوا إيمانهم بالحرية، ولا توقهم للكرامة، ولا قدرتهم على إعادة البناء.
أتمنى، كما يتمنى كل سوري حرّ، أن :
-تسقط فيه منظومة الاستبداد،
-وتتفكك دولة الخوف،
-ويُعاد للإنسان السوري اسمه وكرامته،
-وتعود السياسة فنًا لا جريمة،
-ويصبح القانون أعلى من الحاكم،
-وينتهي حكم المحسوبيه دون رجعة،
-وتُبنى سوريا على المواطنة لا على الولاء.
أتمنى أن تعود سوريا وطنًا…
لا مساحةً لحزب، ولا حديقة خلفية لعائلة، ولا مزرعة لأجهزة.
سوريا التي تستحقها أرواح شهدائها، وجراح معتقليها، ودموع أهلها، هي سوريا:
سوريا الحرّة، المدنية، العادلة… سوريا الإنسان.
خاتمة
قصة اتصال هاتفي بين رئيس ووزير ليست طرفة؛
إنها مرآة تُظهر ما كانت عليه سوريا… وما صارت إليه في عهد البعث والأسدين
ومن يقرأ التاريخ كما يجب، يعرف أن الشعوب التي تُكمم أفواهها عقودًا…
هي نفسها الشعوب التي ستحطم باب السجن في النهاية.
وسوريا — مهما طال الليل — قادمة نحو فجرها الذي تستحقه وقد بدأنا نحس برياح التغيير بعد التحرير .
ومضت السنوات… طويلةً كالصبر، ثقيلةً كالأحلام المؤجَّلة.
ثم جاء التحرير الذي انتظره الناس كما ينتظر العطشى الماء.
تحريرٌ لم يكن انتقامًا، بل استعادةً لشيء أعمق:
استعادة سوريا من الخوف.
وكنتُ — في زيارتي الأولى والثانية بعد التحرير — أشعر بأن الوطن ينفض عن جسده آخر غبار الليل.
رأيتُ في وجوه الناس شيئًا غريبًا، شيئًا افتقدته سنوات:
شعور الإنسان أنه إنسان.
منذ أن وطئتُ المطار، لمست شيئًا يشبه العودة إلى البيت؛
لم يعد الجواز يُفحص كأنه تهمة،
ولا النظرة تُرمى كأنها اتهام،
ولا الهمسة تُكتم خوفًا من جدارٍ يحفظ الأسرار أكثر مما يحفظ الطلاء.
وعندما مررتُ على دوائر الدولة — تلك التي كانت تُعرف بأنها حقول صبر — رأيت الموظفين يتحدثون مع المواطنين بلا خشية، بلا ارتعاش، بلا لغة «من أنت؟».
رأيتهم يتعاملون مع الناس كأنهم… مواطنون.
وهذه، لمن عاش العقود الماضية، ليست مشهدًا عابرًا؛
إنها إعلان ولادة جديدة.
وحين وقفتُ على الحواجز الأمنية،
توقفت كعادتي القديمة،
ومددتُ يدي بالهوية،
لكن شيئًا لم يحدث:
لا الشكّ،
ولا النبرة الخشنة،
ولا السؤال الذي يشبه المحاكمة،
ولا ذلك الشعور المرعب بأنك في بلدك… غريب.
بل رأيت وجوهًا هادئة،
تسأل باحترام،
وتردّ بابتسامة صغيرة،
وتتركك تعبر كما يعبر المرء من غرفة إلى غرفة في بيته.
عندها أدركت أنّ الخوف — ذلك الوحش الذي ربّاه البعث والأسدان — بدأ يموت.
سوريا اليوم، بعد التحرير، لا تزال تتلمّس طريقها،
لكنها بدأت تعود إلى نفسها،
إلى صورتها الأولى،
إلى البلد الذي كان فيه رئيس الجمهورية يستأذن موظفة هاتف،
والوزير يقول الحقيقة،
والكاتب يروي القصة بلا قيد،
والمواطن يسير في الشارع لا يلتفت خلفه،
لأن خلفه لم يعد هناك سجان… بل وطن.
وصدق من قال:
إن الحرية لا تولد مرة واحدة،
بل تولد كل يوم…
مع كل كلمة لا تُخنق،
وكل حقيقة لا تُعاقَب،
وكل قلب يشعر أنه في بلده آمن.
هذه هي سوريا التي نراها،
وهذه هي سوريا التي نريدها،
وهذه — بإذن الله — سوريا التي ستبقى.