حماة… مدينةٌ تُقاوِمُ بالمبادئ، وتنهضُ بالرجال
د. تمام كيلاني ؤئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب بالنمسا
حماة… مدينةٌ تُقاوِمُ بالمبادئ، وتنهضُ بالرجال
د. تمام كيلاني*
في زمنٍ تتغير فيه المواقف بتغيّر المصالح، وتغدو الكلمات أثقل من الأفعال، تبقى بعض المدن شاهدةً على معنى الثبات، وعلى قدرة الإنسان على حمل قضيته عبر العقود مهما اشتدّ الظلم وتبدّلت الأنظمة. ومن بين هذه المدن، تبرز حماة—المدينة الصامدة، الجريحة، الشاهدة على حقبة كاملة من الألم والتمرّد والكرامة.
وحينما أتحدث كإبن من أبناء هذه المدينة، فإنما انقل شهادة لا تُكتب بالحبر، بل بالتجربة والمعايشة والانتماء.
حماة… مدينةٌ تتوارثُ الثورة
حماة ليست مجرد موقع جغرافي، بل روحٌ متقدة لم تخمد منذ منتصف القرن الماضي.
هي المدينة التي واجهت حزب البعث والطغمة الأسدية منذ اللحظة الأولى لسطوتهم، فدفعت ثمنًا باهظًا:
-في عام 1964 حين صرخ أهلها في وجه الطغيان.
-وفي مجزرة 1982 حين رُويت أرضها بدم أكثر من أربعين ألف شهيد، في واحدة من أفظع جرائم القرن.
-ثم في الثورة السورية، حيث انتفضت من جديد، فكانت هتافات أهلها نارًا في قلب الطاغية، وكان ريفها الشمالي نموذجًا في التضحية والصمود.
هذه ليست أرقامًا، بل ذاكرة مدينة كاملة؛ مدينة لم تنحنِ، ولم تساوم، ولم تُغيّر جلدها.
عندما تعود إلى الوطن… تعود الروح قبل الجسد
عندما عدت إلى الوطن وفي زيارتي الأخيرة إلى سوريا بعد التحرير كشفت لي الزيارتان حجم الدمار الذي خلّفه النظام وحلفاؤه.
لم يكن دمارًا عابرًا، ولا آثار حربٍ قصيرة، بل تخريبًا ممنهجًا، كأنّ الهدف لم يكن إسكات شعب، بل محو مدينة كاملة من التاريخ.
ومع ذلك، فإنّ الإنسان الحموي لا يشبه الأطلال من حوله؛
إنه يقف فوق الركام، يبتسم، ويمدّ يده ليبني من جديد.
مستوصف اللطامنة… فرحة الحياة رغم رماد الحرب
عندما تم افتتاح مستوصف اللطامنة، رأيت مشهدًا يلخّص كل فلسفة الحياة السورية:
وجوه أنهكها الألم، وأجساد أنهكتها الحرب، لكنها تشرق بالفرح، بالامتنان، بالقدرة على الفرح رغم كل ما فقدته.
لم يكن افتتاح مستوصف مجرد حدث طبي، بل تنفّس مدينة.
تنفّس أهلٌ لم يكونوا ينتظرون الكثير، لكنهم يقدّرون القليل وكأنه حياة كاملة.
مسجد المرحوم معتصم الكيلاني… حين يعود الأذان إلى قلوبٍ مكسورة
وفي الشهر الماضي، عند إعادة افتتاح مسجد المرحوم معتصم الكيلاني في لطمين، كان المشهد أكثر من مؤثر.
رأيت في أعين الناس بؤسًا حقيقيًا، لكنني رأيت في ابتسامتهم قوة أكبر من البؤس.
رأيت أنهم منهكون، لكنهم ممتنون.
مكسورون، لكنهم واقفون.
المكان الذي دُمّر واستُبيح وخرست مآذنه لسنوات، عاد ليقول:
إن الروح تُهزم حين تستسلم… وحماة لم تستسلم.
“لا ينقص مالٌ من صدقة”… حملة فداء حماة
من هنا تأتي دعوتي ومن معي من اهل الخير للناس جميعًا—لأبناء حماة ولأصدقائها ولمن يعرف قيمة الوفاء—للمشاركة في حملة فداء حماة يوم 22.11.
لأن حماة ليست مدينةً تحتاج صدقة؛
بل مدينة تستحق الوفاء.
مدينة أعطت ولم تأخذ.
قاتلت وحدها، ودُمرت وحدها، ودُفنت آلامها وحدها.
ويكفي أن تمد إليها يدًا، ولو صغيرة، لتقول لها:
لم ننسَ، ولن ننسى.
ولأن الصدقة ليست نقصانًا، بل بركةً تتوسع كلما تقاسمتها مع غيرك، فإن من يساهم في إحياء مدارسها ومستشفياتها ومساجدها إنما يعيد الحياة إلى مدينة بأكملها.
إلى حماة… وإلى كل من ينتمي إليها
يا حماة…
يا مدينة الشهداء…
يا مدينة النواعير التي ما زالت تدور رغم محاولات خنقها…
سيبقى أبناؤك يذكّرون العالم بأنك لم تكوني يومًا هامشًا في التاريخ، بل محورًا في الذاكرة السورية.
وسيظل صوتك حيًا ما دام هناك من يرى فيك أمًّا ثانية، وقضية لا تسقط بالتقادم.
إن ما اقوله اليوم ليس خطابًا سياسيًا، ولا بيانًا عاطفيًا، بل تجربة رجلٍ من أهل المدينة، عاش آلامها، وشهد دمارها، ورأى فرحتها الصغيرة تعود رغم الجراح.
إنه صوتٌ ينادي:
كونوا جزءًا من الوفاء… جزءًا من إعادة الحياة… جزءًا من فداء حماة.
فلا ينقص مالٌ من صدقة،
لكنّ كثيرًا من المدن ينقصها رجال…
وحماة لن ينقصها الرجال ما دامت تلد أمثالكم
لاتنسوا حماه يوم 22.11.2025
*رئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب بالنمسا.