استفق قبل أن يصبح الوقت متأخرًا

د. تمام كيلاني
استفق قبل أن يصبح الوقت متأخرًا
تمام كيلاني*
في خضم سباق الحياة المتسارع، وبين ضجيج الطموحات التي لا تنتهي، يقف الإنسان حائرًا بين ما يريد أن يكونه يومًا، وبين ما يعيشه الآن.
تُلاحقه الأصوات من كل صوب: “خطط لمستقبلك”، “اعمل أكثر”، “حقق أهدافك”، “لا تضيّع الوقت”…
لكن قلّما يسمع صوتًا يقول له بهدوءٍ وصدق: “توقّف قليلًا، عِش.”
نحن نركض بلا هوادة نحو المستقبل، نحسب خطواتنا بدقة، ونخاف أن نتأخر، كأن الغد هو جوهر الحياة، وكأن اليوم مجرّد معبرٍ عابر لا قيمة له.
لكن الحقيقة التي يغفل عنها كثيرون، أن الحياة ليست ما سنعيشه يومًا، بل ما نعيشه الآن — في كل لحظة، في كل نبضة، في كل نفسٍ نتنفسه بوعي وامتنان.
عبودية المستقبل
لقد تحوّل المستقبل، في زمننا هذا، من أملٍ جميل إلى عبءٍ ثقيل.
صرنا أسرى له دون أن نشعر؛ نستيقظ من أجل ما سيأتي، ونسهر من أجل ما لم يحدث بعد، حتى نسينا أن نستمتع بما بين الاثنين.
كم من شخصٍ قضى عمره يخطط لغدٍ أفضل، ولم يدرك أنه في سبيل ذلك، أضاع أجمل ما يملكه — اليوم.
إن السعي لبناء مستقبلٍ واعد أمرٌ محمود، بل هو من علامات الوعي والنضج، لكن الخطأ أن يتحوّل هذا السعي إلى هوسٍ يُفقِد الإنسان ذاته.
فما جدوى النجاح إن خسرنا سلامنا الداخلي؟
وما قيمة الوصول إن فقدنا أنفسنا في الطريق؟
العيش ليس ترفًا
العيش الحقيقي لا يعني الترف أو الكسل، بل يعني أن تكون حاضرًا في كل ما تفعل.
أن تنظر إلى السماء وتبتسم، أن تصغي لصوت من تحب، أن تفرح بإنجازٍ صغير، أن تمارس عملك بشغف لا خوف، أن تضحك دون أن تفكر إن كان الوقت مناسبًا لذلك.
أن تعيش يعني أن تتذوق التفاصيل، لا أن تمر بها مرور الكرام وأنت تلهث نحو هدفٍ بعيد.
ومن أجمل تفاصيل الحياة أن تعيش مع أولادك وأطفالك، أن تنزل إلى مستواهم، أن تلهو معهم، أن تضحك لضحكتهم، وتفرح لدهشتهم.
فحين تكبر، ستكتشف أن تلك اللحظات الصغيرة كانت من أثمن كنوز العمر.
وإذا كبروا، رافِقهم — لا تتركهم يمضون وحدهم في زحمة الحياة، فرفقة الأب أو الأم لا تُعوّض.
عِش حياتك الزوجية بكل تفاصيلها؛ بالحب، والمسامحة، والاهتمام، والمشاركة.
لا تؤجل دفء المشاعر ولا كلمات الودّ إلى “حين يتوفر الوقت”، لأن الوقت لن يتوفر إلا لمن يمنحه أولوية.
عِش كل يومٍ جميل وكأنه آخر ما تملكه، لأن الماضي لا يمكن تعويضه، والغد ليس مضمونًا.
اعلم أن السعادة ليست في تحصيل الاموال فكم من غنيٍّ يملك المال كله، لكنه فقد راحته وصحته وابتسامته.
وما الفائدة إن كنت ثريًا ولم تستفد من غناك، بل أصبحت أسير مرضٍ أو قلقٍ أو وحدةٍ قاتلة؟
بين الطموح والاتزان
ليست الدعوة هنا إلى ترك الطموح، بل إلى توازنٍ إنسانيٍّ عاقل.
ابنِ مستقبلك، نعم، ولكن لا تجعل البناء يبتلعك.
اعمل بجدّ، ولكن امنح نفسك راحةً حين تحتاجها.
خطط للغد، لكن لا تنسَ أن الغد يُبنى اليوم — بالحب، والعلاقات، والتجارب، والأخطاء، والتأمل، والصدق مع النفس.
التوازن هو أن تعرف أن كل لحظة من عمرك هي جزء من مستقبلك، فلا تؤجل الفرح، ولا تؤجل الحياة.
فمن قال إن السعادة تنتظرنا هناك في نهاية الطريق؟
ربما هي مزروعة هنا، على جانبي الطريق، تنتظر فقط من يتوقف ليراها.
استفق قبل أن يصبح الوقت متأخرًا
كثيرون يعيشون وكأنهم خالدون، يؤجلون أحلامهم الصغيرة، لقاءاتهم الجميلة، وكلماتهم الطيبة، بحجة “الانشغال” أو “الظروف”.
لكن الحقيقة المرّة أن الوقت لا ينتظر أحدًا.
كل يومٍ يمرّ هو صفحة تُطوى من كتاب العمر، ولن تُعاد كتابتها أبدًا.
فاستفق… قبل أن يصبح الوقت متأخرًا، قبل أن تكتشف أن الحياة لم تكن تنتظرك، بل كانت تمضي بصمتٍ دونك.
إن أعظم إنجازٍ يمكن للإنسان أن يحققه ليس فقط أن يبني مستقبلًا ناجحًا، بل أن يعيش رحلته إلى ذلك المستقبل بوعيٍ وامتنانٍ وسلام.
حينها فقط، يصبح الغد امتدادًا جميلًا لليوم، لا هروبًا منه.
وأنت في طريقك إلى بناء مستقبلك، لا تنسَ أن تعيش.
فالحياة لا تبدأ غدًا… الحياة الآن.
*رئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب بالنمسا
إقرأ أيضًا
الاكثر شهرة
المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق
المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق مؤتمر الياسمين فن ومدن* تحت عنوان (الابتكارات الطب...
أسئلة مباحة في زمن صعب!!
أسئلة مباحة في زمن صعب!! رامة ياسر حسين* هل حصلنا على الحرّيّة حقًّا أم زادت المسافات...
عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح باب الحوار
عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح باب الحوار ملاك صالح صالح* في الكثير من البيوت العربية،...
الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!!
الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!! ملاك صالح صالح* قبل أن تبدأ رحلتنا في بحر ال...