تعفن الدماغ في زمن الذكاء الاصطناعي

أ. ملاك صالح صالح
تعفن الدماغ في زمن الذكاء الاصطناعي
ملاك صالح صالح*
الدوبامين.. حين تُباع السعادة بكبسة زر
منذ الأزل كان الدماغ يعرف معنى الجهد:
تركض خلف الصيد، تزرع حبة قمح، تتعلم مهارة، تكتب سطرًا في دفتر أحلامك.. وبعد التعب تأتي المكافأة:
دفقة من الدوبامين، هرمون المتعة الذي يُشعرك بالرضا ويحفزك على الاستمرار.
لكن في عصر الشاشات، تغيّر كل شيء، صار الدوبامين يُفرَز بلا جهد، بكبسة زر واحدة:
صورة عابرة على "إنستغرام"، فيديو قصير يثير ضحكة سريعة، أو حتى إجابة جاهزة يولّدها الذكاء الاصطناعي بدل أن تُرهق عقلك بالتفكير..
وهكذا يتعود الدماغ على المكافأة السهلة، فيتكاسل، ويتبلّد، ويترك شغفه القديم.
الإدمان الرقمي… تعفّن بطيء خلف الشاشة
الإفراط في هذه المتع السريعة يحوّل الدماغ إلى مدمن على اللذة الفورية، غير قادر على الصبر أو السعي الطويل ومع الوقت، تتغير عاداتنا:
نستعين بالآلة كـ طبيب بدل أن نزور العيادة.
نفضفض لشاشة باردة كأنها صديق.
نسمح لها أن تكتب رسائل حب فتبدو كأنها حبيب.
نحمّلها كل ذاكرتنا فتغدو مخزن حياتنا، بينما عقولنا تفرغ أكثر فأكثر.
هكذا يبدأ تسلب المشاعر:
حيث يحلّ النص المصطنع محل الكلمة الدافئة، والصورة المفلترة محل الذكرى الحقيقية، والآلة محل إنسانيتنا.
ذاكرة تمحى.. ودماغ ينسى نفسه
هل حدث لك أن دخلت غرفة لتأخذ شيئًا، ثم توقفت فجأة، عاجزًا عن تذكّر السبب؟
ذلك المشهد البسيط ليس مجرد نسيان عابر، بل علامة على أن ذاكرتنا قصيرة المدى بدأت تتآكل..
نحن نستبدلها بهواتفنا التي تحفظ كل شيء:
المواعيد، الأرقام، حتى الأفكار. ومع كل مرة نعتمد فيها على الجهاز، يتنازل الدماغ عن جزء من قدرته الطبيعية.
إنها صورة صامتة من صور تعفّن الدماغ الرقمي: حيث نُفرغ أنفسنا من التجربة الحية، ونعيش على ذاكرة مستعارة.
أطفالنا.. صفحات بيضاء في عالم رمادي
الأطفال اليوم يولدون في حضن الشاشات. ألعابهم، صداقاتهم، وحتى أحلامهم تُبنى على ضوء أزرق بارد. عقولهم تنمو كصفحات بيضاء تنتظر الأوامر، بلا خبرة حقيقية، بلا لمس للطبيعة، بلا دفء لعلاقات إنسانية حقيقية.
إذا استمر هذا المسار، فإن ذاكرة الطفولة، التي كانت تُبنى يومًا بالركض في الشارع أو بالرسم على جدار المدرسة، ستُستبدل بشاشة تتقلب بين إعلان ومقطع عابر.
الإنسانية على مفترق الطريق
أيها القارئ.. حين تصبح سعادتك بيد خوارزمية، وحين يفيض دماغك بالدوبامين بلا جهد ولا مغامرة، فاعلم أن إنسانيتك في خطر.
إن تعفن الدماغ ليس مرضًا عضويًا وحسب، بل هو انحدار في الوعي الإنساني: حين نترك الآلة تحيا عنا، نفقد القدرة على أن نحيا نحن.
الحياة الحقيقية لا تُختصر في كبسة زر.
هي جهد، وصبر، وتجربة، وحبّ يُعاش لا يُصنّع.
*كاتبة فلسطينية وإخصائية اجتماعية/ فيينا.
كلمات البحث
إقرأ أيضًا
الاكثر شهرة
المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق
المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق مؤتمر الياسمين فن ومدن* تحت عنوان (الابتكارات الطب...
أسئلة مباحة في زمن صعب!!
أسئلة مباحة في زمن صعب!! رامة ياسر حسين* هل حصلنا على الحرّيّة حقًّا أم زادت المسافات...
عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح باب الحوار
عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح باب الحوار ملاك صالح صالح* في الكثير من البيوت العربية،...
الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!!
الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!! ملاك صالح صالح* قبل أن تبدأ رحلتنا في بحر ال...