الوضع الداكن

الغربة… بين الحنين للوطن واكتشاف وطن بديل

الغربة… بين الحنين للوطن واكتشاف وطن بديل
د. تمام كيلاني

 

الغربة… بين الحنين للوطن واكتشاف وطن بديل

د. تمام كيلاني

 

في مثل هذا اليوم، وتحديداً عام 1982، غادرت سوريا، غريب اليد والوجه واللسان، باحثاً عن الأمن والأمان بعد أن هُدمت بيوت العائلة وعقاراتها  وحيها الكامل على يد العصابة الحاكمة. كانت الرحلة العلمية إلى النمسا مفترضة أن تستمر سنتين أو ثلاث، لكنها امتدت لأكثر من أربعة عقود، رحلة مليئة بالتحديات والصعوبات، لكنها أيضًا مليئة بالدروس والفرص والنمو الشخصي.

 

الغربة ليست مجرد مكان بعيد، بل هي تجربة الروح قبل الجسد. أن تعيش بعيداً عن وطنك يعني أن تفقد تفاصيل صغيرة لكنها غالية: رائحة الخبز الطازج في الصباح، أصوات الشوارع، ضحكات الأطفال، أو حتى لغة الحي التي تمنح شعور الانتماء. كل هذه الأشياء تتحول إلى حنين دائم لا يزول، إلى شعور بالفراغ رغم اكتسابك حياة جديدة.

 

الأصعب من فقدان التفاصيل اليومية هو الشعور بالغربة في ذاته: أن تكون غريباً في مجتمع لا يعرفك، يراقبك بنظرات مختلفة، يكرر السؤال: “من أين أنت؟”، وكأنك لم تنتمِ يوماً إلى أي مكان. أن تتحدث لغتهم بطلاقة ومع ذلك تبقى المختلف في نظرهم، أن تحاول الاندماج وفي كل مرة تكتشف أن بعض الأشياء لا يمكن أن تُترجم، وأن الهوية التي تحملها معك لا يفهمها إلا من عاشها.

 

لكن الغربة تمنحك فرصة لمقارنة الحضارات، لتتعلم أن الاختلاف ليس سيئاً بالضرورة، بل قد يكون مصدر تقدير للإنسان وراحته النفسية. في النمسا، اكتشفت فرقاً شاسعاً بين الحياة هناك وما عهدته في سوريا:

      - احترام الزمن والوقت: هنا الناس يحترمون مواعيدهم ومواعيد الآخرين، لا تضيع اللحظات في التأخير أو الانتظار الطويل.

      - الاحترام المبني على العلم والمهنة: الناس هنا يحترمونك لعلمك، لمهارتك، لمساهمتك في المجتمع، وليس بناءً على حزب أو سلطة أو نفوذ كما قد يحدث في الوطن الأم.

      - قلة الانشغال بأخبار الآخرين: المجتمع أقل تعلقاً بالفضائح والشائعات، ويهتم كل شخص بحياته ومسؤولياته، ما يمنحك شعوراً أكبر بالخصوصية والحرية.

      - النظافة العامة: الشوارع نظيفة دائماً، لا تراكم للقمامة أو الأوساخ، حتى في الأحياء المكتظة، وهذا فرق جذري عما عهدناه في وطننا.

      - نظام السير الممتاز: احترام القوانين المرورية يجعل التنقل سهلاً وآمناً، ويقلل من التوتر اليومي الذي كان مألوفاً في دمشق وحلب قبل سنوات الغربة.

      - الاهتمام بالحدائق والمساحات العامة: كل حي يحتوي على حدائق نظيفة، ومساحات خضراء للعائلات والأطفال، ما يعطي شعوراً بالراحة النفسية والانتماء للمكان.

 

الغربة، رغم صعوبتها، كانت مدرسة قاسية علّمتني الصبر والتحمل والنضج. وعلمتني أيضاً أن الوطن الحقيقي ليس فقط الأرض التي ولدت عليها، بل المكان الذي تحيا فيه كإنسان كامل، محترم، قادر على العطاء وتحقيق ذاته.

 

ومع مرور كل السنوات، بقيت سوريا في القلب، حاضرة في كل حارة وبيت وشارع لم أعد أراها إلا في الذكريات. ومع ذلك، أظهرت لي الحياة في وطن بديل أن الإنسان يستطيع أن يجد الأمان والحرية والاحترام حتى بعيداً عن أرضه الأولى، وأنه يمكنه أن يعيش حياة كريمة، مليئة بالقيم الإنسانية التي قد نفتقدها في بلادنا.

 

واليوم، بعد التحرير، عاد الأمل للناس أن يعودوا إلى أوطانهم، بعد أن خلصوا من الأجهزة الأمنية والقمعية، وعاد للإنسان حريته بعد زوال حكم البعث وعصابات الأسد من سوريا. هذا التحرير أعاد الروح للوطن، وأكد أن الحرية حق لكل إنسان، وأن الغربة مهما طال أمدها، لا تمنع القلب من الحنين والأمل في العودة.

 

اليوم، بعد أربعين عاماً من الغربة، أرى الرحلة الطويلة ليست مجرد هروب أو نزوح، بل كانت رحلة تعلم ونضج، رحلة صبر وأمل، رحلة حنين واعتزاز بالهوية، ورحلة اكتشاف أن الإنسان قادر على بناء وطن بداخله، حتى قبل أن يجد وطنه البديل الذي يمنحه الحرية والاحترام. الغربة بكل صعوبتها علمتني معنى الحياة والكرامة والانتماء، وعلمتني أن الإنسان مهما ابتعد عن وطنه، يستطيع أن يجد مكاناً يشعر فيه بالحرية والاحترام، وأن يعيش بسلام مع نفسه ومع الآخرين، مستمداً الأمل من عودة وطنه الأم إلى أبنائه الأحرار.

 

*رئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب بالنمسا


إقرأ أيضًا

بوابة فيينا

"شجن على ضفاف اللان".. ذاكرة ذات مستعصية!!

"شجن على ضفاف اللان".. ذاكرة ذات مستعصية!!
بوابة فيينا

ارفعوا أيديكم عن اسم الكتلة الوطنية السورية

ارفعوا أيديكم عن اسم الكتلة الوطنية السورية


الاكثر شهرة
المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق

  المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق مؤتمر الياسمين   فن ومدن* تحت عنوان (الابتكارات الطب...

أسئلة مباحة في زمن صعب!!

  أسئلة مباحة في زمن صعب!! رامة ياسر حسين*       هل حصلنا على الحرّيّة حقًّا أم زادت المسافات...

عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح باب الحوار

  عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح  باب الحوار   ملاك صالح صالح*   في الكثير من البيوت العربية،...

الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!!

  الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!!   ملاك صالح صالح*   قبل أن تبدأ رحلتنا في بحر ال...

تابعونا


جارٍ التحميل...