لطيفة القاضي تكتب قصة قصيرة بعنوان مذكرات شخصية
مذكرات شخصية
لطيفة محمد حسيب القاضي
مضى على وفاته ثلاثة أشهر، والحزن الشديد يخيم على حياة ليلى.
في الثالث من مايو، في الساعة الحادية عشرة صباحًا، قرأت ليلى عبارة للروائي غاستون باشلار وهي تتصفح الإنترنت: "علينا أن نقوم بمسح لكل الأماكن التي دعتنا للخروج من ذواتنا". كانت العبارة لها الأثر الكبير في وعيها.
ليلى، التي تمتلك شغفًا كبيرًا بالقراءة والكتابة منذ صغر سنها، فتاة جميلة تبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عامًا. لديها بشرة بيضاء وشعر أسود مثل الفحم. شعرها الطويل منسدل على كتفيها، وجسمها ممتلئ بعض الشيء. تحب تجسيد أفكارها ومشاعرها على صفحات دفتر ورقي كبير، وترى أن الكتابة هي طريقة للتعبير عن ذاتها.
عاشت فترة طويلة مع زوجها إحسان في ذلك البيت المكون من طابقين، في قلب حي هادئ وجميل. يحيط البيت حديقة صغيرة مليئة بالأشجار الشاهقة والأزهار الملونة، التي تمنحه لمسة طبيعية ساحرة.
تسكن هي في الطابق الأول، الذي يتكون من ثلاثة غرف وصالة تنبض بالدفء والحياة. يمكن الوصول إلى الغرف الثلاث المتفرعة من الصالة. توجد غرفة نوم رئيسية تضفي جوًا هادئًا مرحًا وسريرٌ كبيرٌ مريحٌ يتربع وسطها، ومن الجهة الأخرى نافذة كبيرة مطلة على الحديقة والشارع، مزينة بستائر خفيفة تتراقص من نسمات الهواء اللطيفة. تحتوي غرفتها على خزانة واسعة ومكتب عليه مجموعة من الكتب والروايات لغاستون باشلار، وديستفسكي، وأرنست همنغواي، ونجيب محفوظ. كما توجد مجموعة أوراق متناثرة تكتب فيها مذكرات حياتها.
لا أحد في الشارع ينصت إلى الصراخ اليومي والبكاء الذي يجتاح حياة ليلى اجتياحًا ضاجًا واعتراضًا يهز عرش مملكتها القابعة بداخلها.
تقول في نفسها:
-لا أعرف من الذي يستطيع أن يزول حطام الدنيا من قلبي؟
تجلس ليلى على مقعد أمام نافذة غرفتها لتسافر عبر الليالي الحالكة، وتعود بالماضي والذكريات التي لا تزال قابعة في عقلها. وتتمنى العودة إلى الماضي، فتقول وكلها حزن:
-هل يمكننا العودة إلى الماضي؟
تتدفق الذكريات كالأمواج التي تحاول مقاومة العودة إلى الماضي، لكنها لا تستطيع إيقافها.
تستعيد ذكريات زوجها الذي توفي عقب مرض خبيث؛ فقد غادر الحياة بسرعة وترك وراءه الكثير من الذكريات.
تتذكر أول لقاء كان بينهما في حفلة عيد ميلاد صديقتها، حيث كانت ترقص وتغني في الحفلة، وإذ بإحسان يدخل من باب البيت، فتقع عيناه على عينيها، ويقع قلبه في قلبها من أول نظرة.
إحسان، الشاب الوسيم ذو الجمال الطبيعي والجاذبية الملفتة، يتميز بملامح وجه حادة ومتناسقة، وبشرة ناعمة وصافية. يمتلك عينين كبيرتين جذابتين، تضفي على مظهره لمسة من الغموض والجاذبية، فلديه عيون بنية غامقة ساحرة تبرز ملامحه الوسيمة، بشعره القوي والكثيف. لون شعره بني داكن منسدل بشكل جذاب. يتمتع بجسم رياضي ومتناسق، مما يضفي عليه طابعًا جذابًا وجسمًا قويًا.
ذكريات الماضي تلاحق ليلى، فتتذكر أيام الحب والرومانسية عندما كانا يتجولان في شوارع المدينة، ويتبادلان الضحكات والأحاديث العميقة.
لحظات سحرية محاطة بالحب. وتقول ليلى في نفسها:
-كنت أتمنى أن أراه حين يشيب! وأن أُصبح عكّازه حين تخونه قدماه، وأن أرى تجاعيد وجهه وأُقبّلها بحبٍ عظيم، وأن أسمعه حين يُسبح. وأن أموت قبل أن يموت.
تستنشق ليلى الهواء العليل في الجو الصيفي المنعش، وتستكمل حوارها مع ذاتها قائلة:
-إحسان لا يزال على قيد الحياة.
تتذكر نفسها وهي تساعد زوجها في تشغيل الشواية في حديقة المنزل لشوي اللحم في الهواء النقي، والأشجار التي تلتف حولهم وكأنها الأم التي تحتضن أولادها خوفًا عليهم.
في هذه اللحظات التي يتلاقى فيها الحب والسكينة، ويتشابك الأمل والأحلام، إنها ملحمة عاطفية تطرز على أوراق الأشجار والزهور لتكون شاهدة على الحب والإخلاص.
التفاصيل الصغيرة الرائعة التي قضياها في هذه الحديقة حيث كانا يتبادلان الأحاديث العميقة تحت ضوء القمر الساطع، يشاركان أحلامهما وآمالهما المستقبلية. تلك اللحظات المختلفة التي تضفي لمسة من السحر والجمال، وتبقى في القلوب، وتحمل في طياتها الإلهام للمستقبل.
سارت ليلى تهويدًا، وجلست على المكتب وأخذت القلم والورقة لكي تكتب رسالة إلى إحسان:
اشتقت إليك، وإلى ضحكاتك الجميلة التي كنت تملؤني بها. وتلك النظرات العميقة التي تحمل وعودًا لمستقبلٍ زاهرٍ مشرقٍ كالشمس الدافئة. اشتقت للمس يديك الدافئة وعناقك الحميم. أعلم أنك في مكان آخر، لكن روحك قريبة مني.
أنا لا أخجل من ضعفي أمام حبك، ومن خساراتي الكثيرة أمامك، ومن تجاوز مبادئي في كل مرة تكون أنت فيها في مواجهتي. عندما أحببتك وجدتُ فيك ما كان ينقصني. وجدتُ في روحك الملجأ والمسكن. وجدتُ في هذه الروح الكثير من الطمأنينة التي تتسرب إليّ في كل المرات التي شعرت فيها بالخوف.
أشكرك على الحب الذي أعطيتني إياه، وعلى كل الذكريات العطرة التي خلفتها لي. ستبقى في قلبي. أنا هنا الآن لأستكمل رحلتك، وستظل ذكراك تحمل لي معاني القوة للمضي قدمًا.
أخذت دموع ليلى تتساقط مثل المطر الغزير.
أحضرت ليلى ألبوم الذكريات تتصفح صورها مع زوجها، وعادت إلى السكون لحظة والغضب القصير.
قلق مفزع ينتابها:
-لم يخطر ببالي ما سيحدث لك أبدًا، وما تصورت ذلك أبدًا. المرض الخبيث كالعدو الغادر يداهم فجأة.
كان دائمًا ما يأتي لليلى هاتفٌ في نفسها يصدح قائلًا:
-إن زوجك سيموت ويتركك وحيدة.
فكانت تخرس الخاطر الرابض خلف كل انعطاف، حدث يبشر بالفاجعة والنهاية.
في هذه المرة لم تأتِ العلامات. وفجأة، ينتهي كل شيء.
بدأ الليل يرخي أسداله السوداء، فاستبد بها الحزن، واجتاحتها رغبة جامحة في البكاء. تكومت فوق سريرها ترجف أوصالها، وأخذت في البكاء والنحيب، وأضحت عينيها ملتهبتين.
تذكرت ليلى عندما عرفت بمرض إحسان، عندما قال لها:
-باقي من حياتي شهرين يا ليلى.. إنني مصاب بمرض خبيث.
وصدمت من هول المفاجأة؛ حينها تبدلت عليها الحياة، واستبد بها الحزن الشديد.
شريط الذكريات يمر أمام عينيها وكأنه كان بالأمس. تمر الأيام والشهور، وهي تعيش وحيدة في ذلك البيت الذي يحمل كل ركن فيه ذكرى. وكل يوم، تكتب ليلى مذكرات.
تحاول الخروج من فخ الماضي، وتفكر كثيرًا بعبارة باشلار. ومضت تقول في نفسها:
-في بعض الأحيان، نفقد أنفسنا، ذواتنا، رغباتنا، وهويتنا عن طريق العيش في الماضي والذكريات. أشعر وكأنني فقدت الاتصال مع نفسي والآخرين، وأعيش الماضي وحدي. وعندما أتفحص داخلي، أجد روحي فقدت التوازن. لا بدَّ أن أبدأ من جديد، وأحاول استعادة السعادة والتوازن النفسي مرة أخرى، وأخرج للحياة من جديد.
لكن كيف ستكون البداية؟
قررت ليلى استكمال كتابة المذكرات الشخصية لها. أمضت ساعات طويلة في تسجيل أحداث وذكريات وأفكار عميقة على صفحات الدفتر، وتنتقل إلى عوالم من الخيال الذي تصنعه بقلمها بكلمات إبداعية.
ريثما أنهت كتابة المذكرات، شعرت بأنها يجب أن تشارك ما كتبته مع شخص مقرب. هاتفت صديقتها المقربة، هند، وقالت لها:
-كيف حالك هند؟ أرجو أن تكوني بخير.
-أنا بخير، عزيزتي.
-لقد كتبت مذكرات، وأردت منكِ أن تأتي إلى البيت عندي لقراءتها.
وبعد يومين، جاءت لزيارتها. هند، التي تحب الأدب وتكتب الشعر والرواية، كانت دائمًا تقدر موهبة ليلى.
أعطت ليلى المذكرات لصديقتها. أخذتها تتصفح وتقرأ ما خطته ليلى، فأعجبت كثيرًا بأسلوبها وطريقة كتابتها السردية. قرأت هذه المذكرات، فأحست بالتحفيز والإلهام، إذ تحمل في طياتها جزءًا من ذكريات ليلى.
قالت هند لها:
-موهوبة أنتِ يا ليلى! هذه اللحظات المجزأة تكفي لتأليف ذكرى كاملة. سيكون كتابًا مبدعًا.
وبالفعل، أخذت هند المذكرات بحذر، وعبأتها في كتاب جميل مغلف بغلاف جذاب، وكان عنوانه: "مذكرات ليلى". هند تدرك أن الكتاب سيترك أثرًا في قلوب القراء، وسيلقى تقديرًا كبيرًا.
لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ الكتاب في جذب الانتباه والإعجاب. نجح الكتاب بشكل ملحوظ، وزاد الطلب عليه والمبيعات. قدمت هند الكتاب إلى لجنة التحكيم، وانتظرت بفارغ الصبر، ولم يمضِ وقت طويل إلا أنها هاتفت صديقتها ليلى لتزف لها خبر فوز كتابها بجائزة المسابقة.
كانت فخورة بليلى وبنفسها أيضًا للدور الذي لعبته في جعل الكتاب يصل للعالمية.
انطلقت ضحكات ليلى في الهواء، وظهرت الفرحة في تفاصيل حياتها. أصبحت الطيور تغني فوق الأشجار بألحانها الجميلة، وتتراقص الزهور بلطف مع نسمات الرياح. يتجاوز الفرح حدود الكلمات، ويصبح لغة الروح. احتفلت ليلى وهند بالفوز بطريقتهما الخاصة، وكانت الفرحة تغمرهما.
أشرقت عليها الشمس، وكأنها ترتدي ثوب العيد الجديد، وتمسكت بحلمها مثلما يتمسك الرضيع بأمه.
هنا قالت ليلى: الحياة تمضي، ولا يبقى إلا الذكريات. علينا أن نتجاوز كل ماضي، ونبقى في حاضر مشرق مليء بالمفاجآت.
لقد استعادت ليلى توازنها الداخلي، وفكرت بعبارة باشلار، التي كان لها أثرٌ كبيرٌ في تغيير حياتها والبداية من جديد.
ومن ذلك الحين، أصبحت مذكرات ليلى كتابًا محبوبًا ومشهورًا، واكتسبت العديد من المعجبين الذين تأثروا بكلماتها الصادقة.
ستظل مذكرات ليلى شاهدة على رحلة الإبداع.
إقرأ أيضًا
تحبه .. وتسبه قصيدة للدكتور عبد الولي الشميري
وما كنتُ حِزبِيَّا قصيدة للدكتور الشاعر عبد الولي الشميري
الشاعر الدكتور عبد الولي الشميري يكتب قصيدة قبلة على جبين الوطن
البروفيسورة السعودية سامية العمودي: أسعى إلى تحقيق تمكينٍ صحيٍ حقيقيٍ للمرأة
الشاعر الدكتور عبد الولي الشميري يكتب قصيده شمير
الاكثر شهرة
المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق
المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق مؤتمر الياسمين فن ومدن* تحت عنوان (الابتكارات الطب...
أسئلة مباحة في زمن صعب!!
أسئلة مباحة في زمن صعب!! رامة ياسر حسين* هل حصلنا على الحرّيّة حقًّا أم زادت المسافات...
عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح باب الحوار
عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح باب الحوار ملاك صالح صالح* في الكثير من البيوت العربية،...
التغيرات الجديد بقانون الزواج والمساعدات بالنمسا
التغيرات الجديد بقانون الزواج والمساعدات بالنمسا فن ومدن* دعا اتحاد الاطباء والصيادلة العرب بال...