قراءة في رواية ورددت الجبال الصدى للأديب خالد حسيني
معاينة قريبة لأوراق الحرب
محمد رستم*
كحسناء
محتشمة بدت لي رواية (ورددت الجبا ل الصدى) ولأنها تعرف ولعي بالجمال راحت تراودني
من وراء دفّتي نقابها فتبدي لي بعضاً من بهاء فتنتها. وكلما اقتربت من فك أكواد
غموضها واستنطاق شيفراتها، جنحت إلى المراوغة وبراعتها في فن الإغراء والملاوعة، لكنها
استكانت أخيراً وفتحت لي باب أسرارها
من العنونة نبدأ (ورددت الجبال الصدى ) فالعنونة هي
العتبة الأولى للمنجز وواضح تأثّر الكاتب بتضاريس أفغانستان، حيث تشكل الجبال
المعالم الأساسيّة لهذا البلد بل وكانت الأماكن التي تحصن بها المتطرفون
الإرهابيّون طالبان وغيرها) وحين نسأل ما الصدى الذي ردّدته الجبال؟ تجيبنا أحداث
الرواية بأنّه الأذى الذي ألحقته الحروب بأفغانستان
الحدث الأساس الذي تناسلت منه أحداث المرويّة هو بيع
صبور ابنته (باري ) تحت وطأة الفقر والحرمان لنيلا زوجة سليمان وبحجة (إصبع قطعت
لإنقاذ اليد ) ابنه عبد الله والذي سحقه الألم لبعد أخته التي تعلق بها يقول: ربما
باع الأب وحيه أيضاً لآل وحدتي.
تبدأ الرواية بأسطورة يرويها الأب صبور لولديه عبد الله
وباري عن الديف (الغول) وكيف يأتي كل عام ليأخذ أحد أبناء القرية كقربان لقاء
افتداء أهلها وهي حكاية رمزيّة عن الحرب
ولعل الكاتب رمز للحضارة الغربية بالديف فهي من يقف وراء الحروب لكن من يصبح في ضفتها يعيش
في هناءة كما حكاية قيس الذي أخذه الديف وعندما
لحق به والده كي يصارع الغول ويستعيده وجده يعيش في عالم خيالي من السعادة
والهناءة لعله رمز شامل لكل من أجبرتهم الحرب على الهروب إلى الغرب.
فقيس هنا هو باري التي اقتلعت من أسرتها بسبب الفقر
وبيعت لآل وحدتي وأن يرضى والد قيس بتركه عند الديف الذي أمّن له حياة سعيدة.
يعادل بيع باري مقابل المال وتأمين حياة ارستقراطيّة هانئة
لها.
وتوضح المرويّة الفارق الكبير بين حياة الفقراء
والأثرياء في افغانستان (عبد الله شعر أنّه خطا داخل قصر الديف الأسطوري عندما دخل
قصر سليمان)
والرواية إدانة صارخة للحرب الأفغانيّة (ليست حرباً ولا
اثنتين وإنّما حروب عدة كبيرة وصغيرة عادلة وجائرة)
وكل أطرافها مجرمون (همج كلّهم لصوص مسلحون كان رجال
الميليشيات يدخلون متى شاءوا وينهبون أي شيء يثير خيالهم ) ولأنّ الأنذال
الانتهازيين وحدهم يعرفون لذّة
السقوط فقد ركب أبو عادل موجة الجهاد هذا المتظاهر بالتقوى والذي يعاني من تصحر في الأحاسيس الإنسانيّة واحتباس في المشاعر فأثرى
بطرق غير شرعيّة (سطو وسرقة ومخدرات) بحجة الجزاء العادل للتضحية. والد عادل أو بابا
جان هو من قادة الميليشيات فاسد كبير يرتدي ثياب التقي المحسن فيبني مدرسة للبنات
على حسابه الخاص. أصيب مرتين في الحرب حتى طريقة زواجه تدل على بلطجيّته فقد جاء
مع أعوانه إلى بيت من يريدها (لقد دعوا أنفسهم بأنفسهم) كما قام بسرقة أملاك أسرة
غلام وبنى على أرضهم قصراً له. ولأنّ الفساد يرافق الحروب. قال القاضي إنّ حريقا أتلف
ما يثبت ملكيّة أسرة غلام للأرض، ولأن المخدرات تصاحب الحرب فقد صار اسم القصر قصر
بارون المخدرات.
وتصور الرواية بشاعة وفظاعة الحرب (كابل ألف مأساة في
الميل المربع الواحد)
كما يتناول خالد حسيني في روايته فقدان الهوية لجيل كامل
عايش الحرب وضرب في المنافي ففقد أصالته وهويّته
جواب المدام يشي بذلك (أنا أفغانيّة بالاسم فقط) لقد مزقت الحرب الروابط الأسريّة
والاجتماعيّة وباعدت بين الأهالي فلم يعد يعرف الجار جاره
لقد سجّل الكاتب هدفه الذهبي حين جعل الغرب البيئة التي
تعيد لم شمل الأسر التي فقدت جذورها وبينت لها حقيقة انتمائها ولعل هذا هو الصندوق
الأسود في الرواية (فتكتشف باري بأنّها لا تنتمي لأسرة وحدتي وتتعرف على أسرتها
الحقيقيّة) وكأنّ الرواية هنا تقول: إن ما مزقته أنياب الحرب رتقته حضارة الغرب بمشاعرها الإنسانيّة
طبعاً نحن ندهش لفيض العواطف الإنسانيّة في الغرب لكننا
نعرف أنه نفسه من يقف وراء الحروب في مجتمعات متخلفة ذات شعوب لها ذاكرة السمك الذي
لا ذاكرة له. مجتمعات تعوم في بحر السدى وتخوض في رابعة الضياع وتضرب في جحيم
الحروب حيث يقتل الإنسان بسعر الجملة باعتباره من المواد البالية.
ونحن نعرف أن الغرب صيرفي عينه أبدا نحو الموارد فهو
يستثمر حتى في طاقات الشباب الهارب من مجتمعات التخلف والفقر والرمز واضح في
المرويّة حيث يقتنص الديف (قيس ) ويأخذه كفدية عن القرية وبين الغرب الذي يقتنص الشباب ويستثمر طاقاتهم ويغريهم
بحياة هانئة سعيدة.
وتصور الرواية حقبة زمنيّة تمتد لعدة أجيال (رجال أصبحوا
مثل صبور أرباب أسر خاصة بهم لكنّهم كانوا ذات يوم صبية القرية تشاجر معهم صبور وطيّر
معهم الطيارات الورقيّة ولعب الغمّيضة)
يعتمد الكاتب تصوير الجزئيّات الدقيقة بكاميرة ثلاثيّة
الأبعاد ولتأكيد واقعية الرواية يربط الكاتب الأحداث بأسماء وأماكن معروفة (يتزوّجان
في يوم بارد في ربيع عام 977 بعد بضعة أشهر من تنصيب جيمي كارتر رئيسا للولايات
المتحدة الأمريكيّة)
والرواية تتمدد على سرير الواقعيّة التاريخيّة وتنحو جهة
السيرة الذاتيّة حتى تبدو كأنّها صفحة من سيرة حياة المجتمع الأفغاني أي إنّها رواية
سيرة أكثر منها رواية أحداث. سيرة مجتمع
أحرقت نار الحروب روابطه فضرب في صحراء التيه.
*كاتب سوري