Mobile : 00436889919948 [email protected]
Follow us:

بوابة القاهرة

القاص سعيد رضواني:قراءة في قصة "عام الوحش" متاهة الوهم وسراب الخلود

القاص سعيد رضواني:قراءة في قصة


القاص سعيد رضواني:قراءة في قصة "عام الوحش" متاهة الوهم وسراب الخلود

بقلم/نور الدين طاهري

تتموضع قصة "عام الوحش" للكاتب سعيد رضواني في نقطة تفاعل إشكالية بين التاريخ والأسطورة، بين الذاكرة الجماعية والهاجس الفردي، بين السرد الروائي والاشتغال الفلسفي على ثيمات جوهرية تتصل بحدود الإدراك الإنساني ومآزقه الأنطولوجية. إنها ليست مجرد حكاية تُروى، بل مختبر سردي تتجلى فيه بنية معرفية متراكبة، تستدعي استنطاق الأنساق الثقافية والدلالية التي تُنتج النص، وتُحيله إلى نسيج متداخل من المرجعيات، يُراوغ القارئ، ويُلقي به في دوائر تأويلية متشابكة.

في نواة السرد، ينبثق السؤال المؤسس للنص: إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يراهن على معرفته الخاصة لفك شفرة العالم؟ هذا التساؤل يتسلل عبر ثنايا السرد، ليُعيد إنتاج ثنائية الوهم والحقيقة في سياقات متعددة، تُعيد طرح إشكالية الإنسان المعرفي، لا بوصفه كائنًا يسعى للحقيقة المطلقة، بل بوصفه كائنا مدفوعا بوهم القدرة على تملّكها. من هنا، يُمكن النظر إلى السرد باعتباره ليس فقط وعاء للحكاية، بل استراتيجية فلسفية تنفتح على مستويات متعددة من التأويل، ويُعاد تشكيل علاقة الذات بالمطلق عبر سلسلة من التوترات السردية التي تُبنى على تراكم الوهم، لا على تفكيكه.

يُؤسس النص بنيته الرمزية عبر استدعاء شخصية بالداسار، التي سبق أن شكّلها أمين معلوف في روايته "رحلة بالداسار"، لكن هذا الاستدعاء لا يأتي بوصفه إحالة عابرة، بل كاشتغال ضمني على توسيع أفق التأويل، حيث يتداخل السرد التاريخي بالميتافيزيقي، وتُعاد صياغة فكرة الرحلة المعرفية في سياق يضفي عليها طابعًا مغربيا خالصا، مما يمنح القصة بُعدها التأويلي المفتوح. فكما كان بالداسار يبحث عن "الكتاب المائة"، ينطلق عبد القادر في رحلة بحثية موازية، لكنها أكثر تعقيدا، لأنها تنتمي إلى سياق ثقافي يُقيم علاقة ملتبسة مع المجهول، وتتمازج المرويات الشعبية بالتصورات الدينية، مما يمنح الوهم حضورا مُضاعفا، يجعله أكثر تماسكًا داخل بنية الخطاب الثقافي السائد.

من هنا، تأخذ فكرة الطلسم بُعدا وجوديا، فهي ليست مجرد مفتاح سحري، بل تمثيل رمزي للحقيقة المستحيلة، التي يسعى الإنسان إلى امتلاكها، متجاهلا أنها كلما بدت في المتناول، تلاشت في اللحظة الأخيرة. هذا التوظيف لا يتوقف عند حد الاستعارة السردية، بل يمتد إلى عمق البناء الدلالي للنص، حيث يُصبح مفهوم "الطلسم" مرادفًا للحقيقة التي يعتقد الإنسان أنه قاب قوسين أو أدنى من امتلاكها، بينما هو في الواقع مجرد رهينة داخل متاهة المعنى، حيث كل خطوة إلى الأمام هي في الوقت ذاته انزلاق نحو الضياع.

تتشكل هذه المتاهة من خلال مجموعة من التقنيات السردية التي توظّف التقطيع الزمني، والاسترجاع، والتداخل بين المستويات السردية، بحيث لا يعود الزمن خطيا، بل يتخذ طابعا دورانيا، يُعيد إنتاج اللحظة ذاتها في سياقات مختلفة، ليُكرّس بذلك شعور البطل بالتيه، ويُضاعف من دائرية البحث التي لا تنتهي. هذا التيه لا يتجسد فقط على مستوى الحدث، بل ينعكس كذلك على بنية اللغة ذاتها، التي تتخذ طابعا استبطانيا، وتتحول الجمل إلى متاهات لغوية، تتداخل فيها التأملات الفلسفية مع الاستعارات الرمزية، مما يُضيف للنص طابعا إشكاليا، يجعله ينفتح على طبقات متعددة من التأويل.

في هذا السياق، يكتسب التدخين بعدا ميتافيزيقيا، فهو ليس مجرد عادة سلوكية، بل تعبير عن علاقة إشكالية بالواقع، حيث يُصبح الدخان تمثيلا رمزيا للوهم الذي يُحيط بالإنسان، ويمنحه إحساسًا زائفا بالتحكم في مصيره. هذه الدلالة تزداد عمقًا عندما يرتبط التدخين بفكرة "الرؤية من خلال الضباب"، إذ يُصبح البطل غير قادر على التمييز بين الحقيقة والوهم، مما يُعيد إلى الأذهان التصورات الديكارتية حول حدود الإدراك الحسي، وعلاقته بإنتاج الحقيقة.

لكن الذروة الحقيقية للنص تتحقق في لحظة التهام القرد لورقة الطلسم، وهو مشهد يتجاوز وظيفته الحبكية، ليُصبح تكثيفا سرديا لفكرة "عبثية البحث الإنساني". فالطلسم الذي شكّل محور القصة، والذي بُنيت عليه كل الأوهام، يتلاشى في لحظة واحدة، على يد كائن عبثي، مما يُكرّس الرؤية الفلسفية للنص، التي لا تُقدّم إجابة عن سؤال الحقيقة، بقدر ما تطرح هذا السؤال بطريقة تُضاعف من تعقيده.

من هنا، يُمكن اعتبار القصة إعادة إنتاج سردية لمأزق الإنسان الوجودي، وتتلاشى الحدود بين الوهم والحقيقة، ويتحول البحث عن المعنى إلى لعبة عبثية، لا تؤدي سوى إلى مزيد من الضياع. هذه الرؤية تتجلى بوضوح في النهاية المفتوحة، التي تُعيد البطل إلى نقطة البداية، وكأن الزمن لم يتحرك، وكأن الرحلة لم تكن سوى دائرة مغلقة، يتكرر فيها الحدث ذاته إلى ما لا نهاية.

إن الاشتغال السردي في "عام الوحش" لا يقف عند مستوى الحكاية، بل يتجاوزها إلى بناء رؤية فلسفية متكاملة، تُعيد طرح الأسئلة الكبرى حول المعرفة، واليقين، والزمن، لتؤكد أن كل محاولة للإمساك بالحقيقة، ليست سوى سقوط جديد في فخ الوهم. بهذه البنية الفكرية العميقة، يتجاوز النص طابعه الروائي، ليُصبح تأملا فلسفيا في مأزق الإنسان الحديث، الذي رغم تقدمه العلمي والتقني، لا يزال عاجزا عن تجاوز حدود الإدراك التي تُحكم عليه بالسير في دائرة مغلقة، حيث كل إجابة ليست سوى وهم جديد، يُعيد إنتاج السؤال ذاته، في صيغة مختلفة.

في ضوء ما سبق، يتبدّى أن "عام الوحش" ليست مجرد قصة ذات حبكة متشابكة، بل هي نص يتداخل فيه التاريخي بالأسطوري، والمعرفي بالوهمي، والسردي بالفلسفي، لتُعيد صياغة مأزق الإنسان أمام وهم الحقيقة. ليست الرحلة السردية سوى انعكاس لرحلة أزلية، يتكرر فيها السؤال دون إجابة، وتتحول الحقيقة إلى طيف مراوغ، كلما اقتربت منها، ابتعدت أكثر.

من خلال استدعاء شخصية بالداسار، وإعادة تشكيل ثيمة الطلسم، يُرسّخ النص رؤيته العبثية، حيث يُصبح البحث عن المعرفة فعلا دائريا، لا يؤدي إلى الخلاص، بل إلى مزيد من التيه. النهاية المفتوحة ليست مجرد خيار سردي، بل تأكيد على أن دائرة الوهم لا تُكسر، بل تتسع، فتبتلع كل محاولات الفهم داخل ضباب كثيف من التأويلات المتشابكة.

بهذا الاشتغال العميق، تتحوّل القصة إلى بنية رمزية، تكشف لا عن تاريخ فردي أو تجربة معزولة، بل عن مأزق إنساني عام، حيث كل مسعى لفك شفرة الوجود ليس إلا سقوطا آخر في متاهة الوهم، وحيث كل طمأنينة تُبنى على أسس معرفية، ليست إلا قناعًا جديدًا للضياع. إنها ليست قصة تُقرأ، بل متاهة تُعاش، تُلقي بالقارئ داخل دوائر تأويلية متداخلة، لا خروج منها إلا بالسقوط في سؤال جديد، أكثر تعقيدا، وأكثر إغواء بالبحث الذي لا ينتهي.




تاريخ النشر ::4/6/2025 12:06:28 PM

أرشيف القسم

صفحاتنا على مواقع السوشيال ميديا