المعلن والمخفي في رواية حكمة البوم والببغاء كاسكو!!

المعلن والمخفي في رواية حكمة البوم والببغاء كاسكو!!
غلاف رواية حكمة البوب والببغاء كاسكو

المعلن والمخفي في رواية حكمة البوم والببغاء كاسكو!!

 

محمد رستم*

 

من الفضاء النصي للمنجز نبدأ، ظهرت على غلاف الرواية صورة بوم يرتدي ثياب ضابط وهي إشارة مقروءة من الكاتب كملمح لما هو آت..

منذ العنوان العالي، (حكمة البوم والببغاء كاسكو ) توحي الحكاية للوهلة الأولى بأنّ المرويّة موجّة للأطفال أو الناشئة وكأني بها تذكّرنا بقصص كليلة ودمنة لإبن المقفّع، ولكنّ الفارق كبير هنا من حيث ذكر الطيور، فالبوم هنا هو اسم للضابط ابن الشيخ نواف الذي تطوع في الجيش لأنهم أصبحوا ذو قيمة بعد انقلاب حسني الزعيم وتراجع دور السياسيين..
ونظراً لتميّزه أصبح رئيساً لفرع (الحديقة) هذا الفرع يقوم بالتحقيق في القضايا الحساسة، وتأتي تسميته بالبوم كنعت أطلقه عليه الشيخ نواف لأنه ذات يوم قد اصطاد بومة وحبسها في قفص، حينها اعترضت القبيلة لأنّ البومة نذيرة شؤم كما هو شائع ، فقال الشيخ بل هي رمز للحكمة، ثمّ رأى الشيخ نواف مناماً طلبت البومة منه أن يطلقها لأولادها مقابل أن تعطيه الحكمة والعقل، فأطلقها وسمّى ولده "البوم".

وأمّا الببغاء كاسكو فهو رمز للتدجين حيث اعتمده الرائد البوم لهذه المهمّة، وهو ما أثار إعجاب رؤساؤه، فأنشأ حديقة في الفرع على هيئة بومة وجعل المساجين يعملون فيها كما أحضر ببغاء وعلّمه ترديد عبارات احترام له، وكي يكون قدوة للمساجين في ترديد هذه العبارات.

وما يهمنا هنا ما تومئه الميثا، ما وراء الحكي الذي التجربة الإبداعيّة قيمتها، فالرواية تطلق صرخة إدانة ضد التضييق والملاحقة والسجن للسوريين وتصوّر الحال بكاميرا ثلاثيّة الأبعاد ماكان يجري خلف جدران السجن وتحت أقبيته، والحالة المؤلمة التي كان يعامل بها السياسيّون أثناء الوحدة بين سوريّة ومصر من (تضييق، ملاحقة، سجن) تحت أية شبهة ومهما كانت واهية، (كتب العقيد عزت، هذا التواصل بين هؤلاء السجناء يشير إلى بذرة تحالف معادٍ وضد الوطن) ولشدة تنامي الشك صاروا يعتقدون أنّ مجرد التقاء المرء بظلّه هي مؤامرة.

تحمل شخصيات المروية إثم حكايتها، فهم كما أطلق عليها، أصحاب القضية (24 قيراط) وبالاسماء هم مهران الذي لا ينتمي إلى أي حزب سياسي وبسام الأصفر (ابو جورج) قومي سوري، مصطفى الرفاعي متديّن لكنه ليس من الجماعة، وعمر ملا رسول من محبي خالد بكداش لكنه لا يتحدّث مع أحد عن الحزب الشيوعي وهو كردي الأصل، وهيب أحمد بعثي وهو من مناصري الوحدة، محمود الفلسطيني الذي كان همّه الاوحد العودة إلى فلسطين، وكذلك يافا الفلسطينيّة وهي خارج المجموعة وبالاضافة للختيار، وكانوا جميعا متهمين بأفكار الحرية والانفتاح.

 من خلال هذه الأسماء أشار الأديب عماد إلى القوى السياسيّة التي كانت فاعلة في سوريّة تلك الفترة وبيّن أن القهر حاق بكل مكونات الشعب السوري، ولعل الأمر الفاقع في المنجز هو الممارسات غير الإنسانيّة والقسوة الشديدة التي كان يعامل بها السجناء، فصوت الملازم سراج أثناء التحقيق مع المساجين كان يشبه صأصأة نوع من العقارب، (ص28 (والمحقق صفع الشيخ رفاعي صفعة مدوّية بعد ذلك دفع المساجين تحت صنابير يخرج منها ماء يغلي، ثم دفعهم إلى الحمام الثاني حيث الماء البارد جداً، وقال لهم هذا الدرس الأول في الحكمة وأعلمهم أن لليد استخدامات أخرى غير المصافحة، والرائد البوم يقول عن المساجين (كلكم ذئاب تتجولون في الحديقة ولا نخاف منكم، ردّ عليه عمر: السياسيّون ليسو ذئاباً هم يريدون تطوير المجتمع، وخلال الليل ترامت أصوات غريبة من غرف التحقيق الأخرى، أصوات لبشر يعانون عذاباً متتابعاً لا تشبه أصوات البشر العاديين، الصراخ مصحوب بأنين وولولة مصحوبة بالترجي.

الرائد البوم يعتبر تعذيب المساجين وضربهم رياضة، فالقسوة وحدها لديه ممنوعة من الصرف والسجن في نظره وعاء للعذاب والقهر ص 97 وهذا مايذكرنا برواية (شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف وحالة (الموقوف 26) وعقاب الرائد البوم له بالضرب المبرح حيث انهال باللكمات على وجهه حتى سقط مغمى عليه، بعد ذلك تجول الرائد البوم في الحديقة وكأنّ شيئاً لم يكن.

 بالتأكيد هذه الحالة من تضخم الساديّة التي سيطرت على من كان يعمل داخل السجن من ضبّاط ومحققين تندرج تحت ما يسمّى أمراض المهنة، فهم مرضى نفسانيون وفق الاعتبارات الطبيّة.. ولعل الهدف الإشاري الأول للمنجز هو الإدانة الصارخة لهذه القسوة التي تعرض لها السياسيّون زمن الوحدة وعرضت المروية بعض المماحكات السياسيّة التي كانت تجرى داخل السجن بين السياسيين المنضوين تحت رايات أحزاب مختلفة،  لكن تلك الخلافات الفكريّة ظلت تحت سدّة الفكر الإنساني الراقي ولم تنحدر إلى درجة الصراعات الدمويّة كما بيّنت الرواية العلاقات الحسنة بين مكوّنات الشعب السوري (بسام الأصفر قومي سوري لكنّه زميلي في العمل، الشيخ رفاعي متديّن لكنه جاري ولم أجد منه إلّا كل خير، وعمر ملا كردي ولا يخفي حبّه لبكداش، وهيب أحمد بعثي وهو مع الوحدة والبعثيّون أيّدوا عبد الناصر ومحمود فلسطيني ويحب العودة إلى فلسطين وكلّنا نريد أن تعود فلسطين لأصحابها.

ولعل الكاتب ابتدع حكاية محمود ورؤيته لجسد يافا وهي عارية وتلهّفه لرؤيتها مرة أخرى ليؤكد أن السجن لا يمكن أن يميت المشاعر الإنسانية وبخاصّة المشاعر الناجمة عن علاقة آدم بحواء هذه العلاقة المغمّسة بأسرار كونيّة وببراعة أدبية ابتدع الكاتب عماد نداف أكثر من هدف واحد لمنجزه، فالهدف الإشاري الثاني هو توضيح الأثر النفسي للسجن على الروح المعنويّة للسجين وانعكاس ذلك على إرادته وذلك من خلال تجربة الرائد البوم وقيامه بحبس النسر في قفص والنسر كما نعلم هو رمز للحريّة والتحليق في الأجواء الطلقة، وانتهت التجربة بموت النسر، كما مات الختيار (الذي سجن لرأيه السياسي في الانقلابات) ودفنه البوم خلف جدار وبموته صار السجناء يسمعون موسيقا، واستمرار سماع الموسيقا يؤكد أن الحريّة لا تموت وإن مات الشخص الذي يؤمن بها، وهنا أشير إلى وضوح أوجه التشابه بين الختيار والنسر، فعملية حبس النسر هو فكر التدجين، وكذلك جلب الببغاء كاسكو كنموذج للتدجين كي يكون قدوة للمساجين هي تجربة المقدم البوم الّتي تظهر حكمته وقد نجح فيها. يقول للببغاء كاسكو (أقسم أنّك أفدتنا أكثر من رتل دبابات) ص 179 ووصفت السرديّة نجاح عمليّة التدجين، بالقول: في اليوم التالي صعق الجميع بنوعيّة الطعام الجديد فقد اكتشف الجميع أنها من بذور عباد الشمس المحمّصة وعدد من حبات الجوز، أي الطعام نفسه الذي يقدّم لكاسكو بمعنى أنهم أصبحوا مجرّد ببغاوات (واعتاد السجناء على هذا النوع من الطعام ص180 )،واتفق الجميع على ترديد النشيد عندما تفوح الرائحة (التي تدل على حضور المقدم البوم، فيرددون صباح الخير سيدي المقدّم، صباح الخير سيدي المقدّم والتريد هو حال الببغاء لترديده بطاعة عمياء دون إعمال العقل أي إقفال تام للفكر.

 وهكذا انتهت الشخصيّات في آخر المنجز لأن تكون محطّمة الروح تبارك تدجينها، وجاءت القفلة بالإفراج عنهم، وهو ما يسرّ الخاطر للوهلة الأولى، لكن التدقيق في الحدث يترك في النفس أثراً أن لا أمل يلوح في الأفق، فالمؤشرات آيلة إلى مزيد من مفازات الوجع والضياع هي صورة لمجتمع لم تترسخ فيه قيم المواطنة حيث الحقوق والواجبات لذا يتمّ الاعتقال دون اعتبار لأية جوانب إنسانيّة أو اجتماعيّة أو قانونيّة ويتم تعذيب السجناء دون الخوف من المساءلة هو قانون الغاب وإن ارتدى ثياب المدنيّة..

وحين تنتهي الرواية بالإفراج عن المساجين تكون الأحداث قد جاءت مفاجئة لأن الإفرج عنهم لم يكن مدرجاً على روزنامة المواعيد إذ لا داع لسجنهم بعد أن تمّ تدجينهم، التدجين الذي يتقصّد أن يطفئ سر الجمال الذي تخبّئه الحياة في أعماق الإنسان والمتمثّل بالفكر والإبداع المستند إلى الإرادة الحرّة، ثم إنّ جعل الإنسان مجرد فأر تجارب هي جريمة موصوفة بحق الإنسانيّة، وذلك بتحويله إلى ببغاء يكرر ببغاوية بعض الجمل فينتهي الإنسان إلى عطالة تامة وبذلك يزول ذاك السر المخفي فيه والذي يتبدى كالسحر حين تمظهره في اللحظات الإشراقيّة حيث يعلو بالإنسان ليغدو أعلى وأعلى من مستوى البشر العاديين لذا قيل (إن الوحي للأنبياء والإيحاء للمبدعين ) ويمكننا القول هنا إنّ التدجين هو المغزل الذي نسج الكاتب عليه خيوط مرويته، لأن تعريف الإنسان بأنّه حيوان ناطق لا تعني أنّه يتلفّظ بالكلمات، فالببغاء يفعل ذلك، بل تعني أنّه ينطق بكلمات يفهم مدلولاتها ويدرك ما يحمله بعضها من مشاعر وعوطف، أي إنّه كائن مفكر، مبدع.

ويمكننا القول إن شخصيّات المنجز وأحداثها ماهي إلا مرموزات مضمرة لفضح الداء الذي ابتلي به مجتمعنا زمن الوحدة وهو القمع المخابراتي،  وحول شخصيّة البوم والتي تبدو من جماعة الراسخين في الانتهازيّة والخبث والمغسولين من الحكمة لأنّ بين الحكمة والانتهازيّة مفازات واسعة من التباين ، فالحكمة لدى الرائد البوم تكمن في معرفة الطرق السليمة التي توصله إلى مايحقق طموحه ورغباته. ولعل حكمته مثلا تظهر في إجابته عندما سئل عن موقفه من التحضير للانقلاب قال (أنا عسكري يعني أنا مع انتمائي للجيش وليس من الحكمة أن أتمرد على الجيش الذي أنا فيه) هي إجابه دبلوماسيّة عامة لا تدل على موقف محدد وحين جاءت الأوامر للمقدم البوم كي يعتقل المقدم عزت (والذي كان سبباً في ترشيح البوم ليكون في المكتب الثاني ) اعتقله البوم وكمكافأة له رفع إلى رتبة عقيد..

 وتشير الرواية إلى فساد حكم العسكر الذي اعتمد تغييب القوانين وإنهاء دور الأحزاب من خلال الولاء للزعيم أي عبد الناصر (الأحزاب انتهى دورها كل الشعب يريد الزعيم خلصنا بقا ص33) ولعل هذا القول ينسحب على مراحل تاريخيّة لاحقة وإذا ما قشّرنا الحدوتة من الإضافات الخياليّة التي نسج الكاتب خيوطها بحرفيّة نجد أنّها أحداث قد تكون حقيقيّة وبخاصّة أن الكاتب ذكر تفاصيل تاريخيّة دقيقة وأسماء سياسيين لعبوا دوراً سياسيّا كبيراً في سوريّة (خالد بكداش، حسني الزعيم، الشيشكلي، انطون سعادة،عبد الناصر ..الخ.) ولدقة التفاصيل وبراعة التصوير يخال القارئ أن الأديب عماد إنما يوثق تجربته الذاتيّة من خلال هذه السرديّة.

لكن من المعروف أنّ بعض الأدباء يعتمدون الدخول في تفاصيل التفاصيل ويكثرون من أسماء الأماكن والشخصيّات الحقيقيّة لإيهام القارئ بأن روايتهم واقعيّة، وليست مجرّد شطحات خياليّة وذلك كي يحققوا الإيهام الفني ومن الملاحظ أنّ رواية التاريخ والسياسة تكون دائما على تماس مباشر مع الإيديولوجيا ومن هنا تتبدى درجة المخاطرة فيها فقد تقع في فخ المباشرة أو الواقعيّة الفجة فتهتز خيوط  الشبكة الرمزية مما يسيء للمنجز إذ تبدو المرويّة وكأنّها حافية تفتقر إلى الغنى والخيال ويصبح من العسير تحقيق الإيهام الفني الذي يمنح الإمتاع للقارئ، لكنّ الأديب عماد نداف تمكن من تجاوز هذا المحذور حين قام بمحاكاة الواقع بصيغة متخيّلة وأحسن في المواءمة بين المتخيلين السردي والتاريخي وقام بمزجهما بالمتخيل الاجتماعي فقدم رؤيته وفكره بشكل موارب لذا بدت الرواية أشبه بشبكة من المرموزات يقف القارئ متمعّناً خفايا الرمز مفكراً بأبعاد ما يريده الكاتب من تلك الخيالات..

ومن الملاحظ أن الأحداث السياسيّة حضرت كمنظور خلفي للمشهد في اللوحة التي رسمتها السرديّة وهذا المنجز يندرج تحت ما يسمّى بالواقعيّة السياسيّة  إذ شكّل السجن (وهو الفضاء الجغرافي للرواية) أحد أهم الحوامل التي يقوم عليها خطاب المرويّة كما يمثّل أحد أهم العناصر الفاعلة في مغامرة السرد، فمقولة العمل وصندوقه الأسود الذي أكّدت عليه شواغل الأديب هي الإدانة الصارخة للأعمال المخابراتيّة من اعتقال وتعذيب تمت زمن الوحدة، إذ شكل المكتب الثاني شبكات عنكبوتية أودت بحريات الناس وغدا السجن مجرة من الآلام حيث الشطط السادي المرضي والهوس الدكتاتوري الذي أصاب ضباط السجن ومحققيه وجاءت اللغة السردية راقية ولعلّها متأثرة باللغة المسرحية من حيث قصر الجمل والنبرة المسرحيّة التي تلوح من خلال الحروف ومثل هذه اللغة تناسب الجو العام للمروية ففي البيئة العسكريّة كثيراً ما تعتمد العبارات المختصرة.

وأجادت ريشة الكاتب رسم الشخصيّات فبدت صورهم وأعماقهم النفسية تحرّك الأحداث على مدار السرد الروائي، وهنا لابدّ من القول إنّ هذه القراءة لا تلغي أيّة قراءة أخرى وإن اختلفت معها في وجهات النظر.

 

*كاتب سوري/ حمص.


تعليق / الرد من

إقرأ أيضًا

بوابة دمشق

من الألم إلى المنبر… سوريا تُعيد كتابة الرواية"

من الألم إلى المنبر… سوريا تُعيد كتابة الرواية"
بوابة دمشق

تقرير عن زيارة د. تمام كيلاني إلى سورية.. تشرين أول 2025

تقرير عن زيارة د. تمام كيلاني إلى سورية.. تشرين أول 2025
بوابة دمشق

تقرير عن اليوم العلمي في كلية طب الأسنان – جامعة حماة

تقرير عن اليوم العلمي في كلية طب الأسنان – جامعة حماة
بوابة دمشق

متابعةً لأعمال المؤتمر الطبي الأوروبي العربي الأول في سورية

متابعةً لأعمال المؤتمر الطبي الأوروبي العربي الأول في سورية
بوابة دمشق

فعاليات المؤتمر الطبي الأوروبي العربي الأول في سورية

فعاليات المؤتمر الطبي الأوروبي العربي الأول في سورية
بوابة دمشق

حول فعاليات اليوم الثاني للمؤتمر الطبي العربي الاوربي بسورية

حول فعاليات اليوم الثاني للمؤتمر الطبي العربي الاوربي بسورية
بوابة دمشق

تقرير حول فعاليات المؤتمر العلمي الأوروبي الأول في دمشق!!

تقرير حول فعاليات المؤتمر العلمي الأوروبي الأول في دمشق!!
بوابة دمشق

افتتاح المؤتمر الطبي العربي الاوربي بسورية!!

افتتاح المؤتمر الطبي العربي الاوربي بسورية!!


الاكثر شهرة

تابعونا


جارٍ التحميل...