من الألم إلى المنبر… سوريا تُعيد كتابة الرواية"
د. تمام كيلاني
من الألم إلى المنبر… سوريا تُعيد كتابة الرواية"
د. تمام كيلاني*
في لحظة فارقة، تكسرت فيها جدران الصمت، واهتزت أركان الذكرى، وقفت إحدى الناجيات من سجون القهر والظلم في قلب دمشق، وعلى منبر قصر الأمويين تحديدًا، في مناسبة لا تقل رمزية عن الموقف نفسه: اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
هناك، حيث اعتُقل الصوت لسنوات، وعوقب الحرف، وذُبح الضمير، علت شهادة امرأة سورية… لا بصوت البكاء، بل بصوت الحقيقة.
من كان يتوقع أن تتحول الكلمة التي حاول الجلاد دفنها، إلى منارة؟
من كان يتخيل أن تقف ناجية من المعتقل، بكل ما تحمله من ألم وتجربة، لتروي روايتها أمام جهات رسمية، ومنظمات دولية، وجمهورٍ لم يعد بإمكانه أن يدعي الجهل أو الصمت؟
ما حدث ليس خطابًا عابرًا، ولا لقاءً إعلاميًا يُنسى بعد لحظات…
بل هو لحظة استعادة للكرامة.
لحظة صدام بين التاريخ المزور والتاريخ الحقيقي.
لحظة انكشاف لما حاول الظلم أن يخفيه، وتأكيدٌ أن الذاكرة لا تموت، حتى وإن أصابها الإهمال.
إنّ وقوف امرأة ناجية من سجون النظام السوري السابق بكل ما تحمله من ألم شخصي، هو في الحقيقة وقوف باسم آلاف المغيّبين، وباسم وطنٍ حاولوا تمزيقه فتماسك، وأرادوا إذلاله فارتفع.
هذه الشهادة تُعيد تثبيت معادلة النضال السوري:
أن من خرجوا لأجل الحرية وضد البعث وعصابة الأسد لم يكونوا واهمين، ومن ضحّوا لم يكونوا مغررًا بهم، وأن السوريين لم يسقطوا، بل صمدوا، رغم كل القهر، والخذلان، والتشويه.
اليوم، تتبدل المواقع.
الضحية تتحدث، والجلاد يختبئ خلف جدران روايته المهترئة.
من كانت تُعذّب لأنها قالت "لا"، باتت حرة تتكلم، بينما من قال "نعم" لكل الظلم، يعيش رعب الحقيقة الآتية.
ولعلّ من أجمل ما في هذه اللحظة أنها جاءت في دمشق ،المدينة التي أراد الطغيان أن يحتكر صوتها، فخرجت من بين أنقاض الصمت لتقول: "هنا كنا، وهنا سنبقى، وهنا لن تُمحى الرواية.
ولأنّ ذاكرة الشعوب لا تُغتال،فإننا اليوم مدعوون جميعًا – أفرادًا ومؤسسات، إعلامًا ومنظمات، سوريين وأحرارًا في كل مكان – إلى مواصلة تثبيت الرواية، وتوثيق الحقيقة، لا كرواية انتقام، بل كمشروع أمل وعدالة، لوطنٍ يستحق أن يُبنى من جديد، على أساس إنساني وأخلاقي لا يعرف الزيف ولا الخنوع.
إن سوريا التي تنبض من تحت الركام، وتكتب حكايتها بأقلام الناجين والشهداء والمبعدين، هي سوريا التي لا يمكن للظلم أن ينتصر عليها، مهما طال الليل.
ولعلّ هذه الحادثة، التي بدت للكثيرين وكأنها مفاجئة، ليست سوى بداية لتحول عميق…
تحول يعيد الاعتبار للإنسان، ويضع الجلاد في موقعه الأخلاقي الصحيح، ويثبت أن الكلمة إذا خرجت من قلب الألم، فهي أبلغ من كل سلاح.
فلنحفظ هذه اللحظة...
ولنجعلها جزءًا من ذاكرتنا الوطنية،
ولنصغِ بعناية لصوت المظلوم، فهو بوصلتنا إلى الطريق الصحيح.