سعيد رضواني:المرآة، أبعادها الرمزية.
سعيد رضواني:المرآة، أبعادها الرمزية.
بقلم/غيثة لبلول
ان اختيار "مرايا" كعنوان لكتاب هو مجموعة قصصية للقاص المغربي "سعيد رضواني "يحمل أبعادا متعددة :
** البعد الاجتماعي، ويعني الاختلاف والتعدد .
** البعد التاريخي ويعني التطور والتغيير.
** البعد النفسي ويعني التفرد والتميز.
كل هذه الأبعاد حاظرة في المجموعة القصصية هذه، وتبدو متداخلة في بعضها ،يدركها القارئ وهو يتنقل من قصة لأخرى... ويتمثلها كلحظات تعايش واندماج يستشعرها وهو يتأمل قراءته هذه....
لقد اثارتني كثيرا الطريقة المتفردة التي كان عليها السرد في هذه المجموعة، ووجدت نفسي اعيد قراءتها لأستكنه هذا الأسلوب في السرد باعتباره طريقة تتجاوز الحكي التقليدي ،إلى اسلوب يجعل الكاتب ينغمس في حكيه ويندمج في القصة ويتماهى في احداثها وشخصياتها ،لدرجة تحسها "سيرة ذاتية".
قلت اثارتني طريقة الكتابة، من حيث مواضيعها اولا، واسلوبها ثم لغتها الغنية بالاستدعاءات الرمزية، والتوظيفات البلاغية ،فكان الحكي مشوقا ، والصياغة جميلة جدا، مبهرة في استعاراتها، وتشبيهاتها وأشكال الكناية وصور الجناس والطباق المتعددة.....
فوجدت متعة في هذه القراءة لألخصها في هذه التدوينة :
أعود إلى العنوان بالتركيز على دلالة المرآة....
كثيرا ما نعرف المرآة بأنها انعكاس للواقع....
لكن الواقع ليس واحدا، بل هو تعدد واختلاف، يغيب فيه الانسجام ويحظر التنافر والتناقض ،وأحيانا أخرى يتم الاختلاط والتمازج....
فعلى اي اساس يتم الانعكاس؟
هل على اساس الانسجام ،فتظهر الحقيقة الواحدة؟
ام على اساس التعدد والاختلاف فيحل الوهم محل الحقيقة؟
إذن فأن تعكس المرآة الواقع ، معناه انها تعكس التعدد والاختلاف، بل التناقض المعاش في الواقع الواحد، وبالتالي فلا وجود لحقيقة واحدة ومطلقة.
،وبالتالي فالمرآة ،في انعكاسها هذا انكشاف لمعايير متداخلة في واقع تزكمه التغيرات والتناقضات المعاشة ،وما نعيشه ليس إلا اوهاما او إيهامات ....
ان اختيار "مرايا" عنوانا للمجموعة القصصية ،يعكس هذا التمويه، وينقل هذا التعدد ،ويكشف تلك القدرة الكبيرة لصاحبها ،الأستاذ القاص "سعيد رضواني" على التخيل، فيرتفع بالقارئ من مستوى القراءة الواحدة والسرد المنظم والمرتب للحدث وللقضية إلى مستويات معقدة متداخلة من اجل ادراك الموضوع وتفحص الحقيقة، وليس مجرد حكي.
ينتقل بالقصة من محتواها السردي المبني على تسلسل الأحداث ،إلى تعدد واختلاف يخلق ارتباكا ويقوي مفهوم التشويق من خلال تناقضات وايهامات تتعالى على الواقع المألوف إلى واقع مركب ومربك.....
يحملك السرد القصصي عند سعيد رضواني إلى مجال يتداخل فيه الواقعي بالوهمي، يمزج بين الحقيقة والوهم ،يرتفع بك من مجرد القراءة السلسة إلى القراءة التأملية التي تحفزك على التوظيف الذهني للمخيلة حتى تتمكن من استلهام واقع معقد متداخل تتناسل فيه أحداث لايربطها اي منطق (لا واقعي ولا رمزي تجريدي) بل فقط منطق تخيلي ياخذ بالصورة ونقيضها، يتأمل وضعا ما، ويعيش نقيضه (الاب حزين لموت الابن وفي نفس الوقت منتش بموت الاب : قصة ذهاب وإياب...).
في هذا السرد القصصي يلعب مفهوم التماهي دورا فعالا يجعلك تتيه بين شخصيات الاقصوصة الواحدة، فلا تستطيع التمييز بين الشخصية الرئيسية وغيرها، الكاتب هو السارد هو البطل ،هو الشخصية الأساسية ،ونفسها الثانوية، يعكس أوضاعا مختلفة لمواقف متناقضة مربكة ومستفزة في كل الأوضاع، يدفعك كقارئ إلى المزيد من التخمين لدرجة قد تجعلك أحيانا مشاركا في المغامرة القصصية ،وليس مجرد قارئ، وهنا يحظر التماهي في أقصى صوره : تماهي القارئ مع شخصيات الاقصوصة.......
في هذا السرد لم تعد هناك حاجة للتسلسل الزمني، حيث يتداخل الماضي في المستقبل، ويستدعى المستقبل الحاضر ،ويذوب الحاضر في الماضي، فيصعب التمييز بين لحظات الأحداث ،وهذا لا يقل من قيمة السرد بل يضفي عليه المزيد من التشويق حيث لم تعد هناك قيمة للارتباط بالتاريخ كمجرد لحظات متزامنة، ليصبح التاريخ حالة معاشة حسيا وذهنيا.
في هذا السرد يختفي مفهوم المكان بمعناه التقليدي كحيز، أو فضاء محدد جغرافيا، ويصبح في مخيّلة السارد ،الكاتب والبطل في نفس الوقت، يصبح المكان كتلة مشاعر وأحاسيس يعيشها في دواخله ،ويتمثلها في مخيلته بصورة ترضي تطلعاته لما يريد أن يكون عليه وضعه المكاني، فيمزج بين الدروب كما توجد في المدينة، وممرات بين الحقول كماهي في البادية " أنزلتني الحافلة عند مدخل درب يتجه رأسا إلى الضيعة". (قصة ذهاب واياب)
ان كان الكتاب يحتوي قصصا قصيرة، فهي في العمق دسمة، تحمل أبعادا في مضمونها وتعكس غنى في دلالتها لأنها تتجاوز الحكي المباشر إلى التوظيف الرمزي، بهدف تحفيز الذهن إلى استكناه الحقيقة (اي الغوص في كنه الأشياء والأحداث) في زمان ومكان انعدم فيه الحق وتاهت فيه الحقيقة......
"مرايا" هو بالنسبة لي تأملات فلسفية لفكر يقظ يسعى إلى واقع يتجاوز الغموض من أجل بناء نظري يعكس كنه الحقيقة ويرغب في جوهر الأشياء ويتجاوز أعراضها.
تاريخ النشر ::4/9/2025 10:07:30 AM
أرشيف القسم