سوريا التي تُنزف من الداخل: حين تصبح الخيانة وجهة نظر
سوريا التي تُنزف من الداخل: حين تصبح الخيانة وجهة نظر
د. تمام كيلاني*
في بلدٍ كان يُشار إليه يومًا بأنه مهد الحضارات، ومنارة التنوع، ومضرب المثل في التعايش، لم يعد الألم السوري مجرد صدى لحرب تُشنّ من الخارج، بل صار نزيفًا داخليًا أشد فتكًا، لا تتركه الطائرات والمدافع فحسب، بل تُغذّيه الكلمات، والمواقف، والنيات المسمومة.
ليست سوريا غريبة عن الاختلاف، بل كانت الاختلافات فيها مصدر ثراء ثقافي وروحي، لا مشروعًا للعداوة والاقتتال. أما اليوم، فنبدو كأننا في متاهة من الكراهية المتبادلة، كل طرف يلوّح بخنجر الاتهام في وجه الآخر، وكأن البقاء لم يعد للأصلح، بل للأكثر ضجيجًا والأسرع في التخوين.
كان يُقال إن سوريا هي الفسيفساء الأجمل في الشرق، لوحة استثنائية تتّسع لكل الألوان، والأعراق، والمذاهب، دون أن تفقد تماسكها.
لكن هذه اللوحة بدأت تتشظّى.
ما الذي حدث؟
كيف انتقلنا من التعايش إلى التناحر، ومن التعدد إلى التمزق؟
الإجابة ليست في عامل واحد، بل في منظومة متراكبة:
أنظمة بعثيه واسديه قمعية خطاب “فرّق تسد” وأعادت إنتاجه جيلًا بعد جيل وجثمت على صدور العباد لاكثر من خمس عقود من الزمن
نخب ثقافية التزمت الصمت في لحظة كانت تستوجب الصراخ، وعندما كانت تتكلم كان مصيرها تدمر او صيدنايا او اقبية المخابرات الاسديه .
إعلام مأجور باع المهنية لصالح التحريض.
وسائل تواصل اجتماعي تحوّلت إلى ساحات قتال افتراضي لا تقل دموية عن ساحات الحرب الحقيقية.
أصبحنا نُشاهد بعضنا بعدسة الريبة، نُفتش في الهويات، ونقرأ في ملامح الآخرين تهديدًا لا امتدادًا.
إن أسوأ ما أصاب السوريين ليس الحرب وحدها، بل انهيار الثقة.
لم يعد أحد يثق بأحد: لا الجار بجاره، ولا الأخ بأخيه، ولا المواطن بمحيطه.
صار التخوين تهمة جاهزة، لا تحتاج إلى دليل، يُمكن أن تُلصق بأي شخص يختلف معنا في الرأي أو الموقع أو الموقف. وفي هذا المناخ المُسمّم، تمدّدت الطائفية والقوميات الضيقة، وتحولت المظلوميات إلى رايات متصارعة، كل طرف يعتقد أن جرحه هو الجرح الوحيد، وأن ألمه هو الحقيقة المُطلقة.
ضاع الوطن، أو كاد أن يضيع.
غابت البوصلة، وتحوّل الاختلاف من نعمة إلى لعنة.
ونسينا قول الإمام الشافعي أو ابن تيمية، رحمهما الله:
“قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب.”
هذه ليست أزمة سياسية فقط، بل أخلاقية وفكرية واجتماعية.
الإنقاذ لا يأتي بقرار فوقي، بل من وعي جمعي.
من الناس أنفسهم. من الشارع، من الحي، من البيت، من كل من قرر أن يكون إنسانًا لا تابعًا.
لسنا بحاجة إلى أن نكون متشابهين، بل إلى أن نحترم اختلافنا، وأن نُعيد الاعتراف ببعضنا كبشر أولًا، وكأبناء وطن واحد ثانيًا.
أن نُقلع عن تصنيف بعضنا على أساس الدين، الطائفة، العِرق، أو المدينة.
أن نُعيد للكلمة احترامها، ونُخرجها من سوق الشتائم والمزايدات.
أن نُعيد لمواقع التواصل دورها كجسر للتواصل، لا كمتراسٍ للحرب والشتائم.
كفانا نشرًا لمقاطع الفيديو المضلّلة، أو تلك التي تُغذّي الكراهية والانقسام.
كفانا مساهمة – بقصد أو عن جهل – في تمزيق ما تبقى من النسيج السوري.
كل منشور يزرع الفتنة، هو رصاصة غير مرئية تُطلق في قلب هذا الوطن المنهك.
فلنتذكّر أن سوريا ليست ملكًا لطائفة أو جماعة أو حزب.
سوريا كبيرة، وتتّسع للجميع…
سوريا لكل السوريين… أو لن تكون.
إن لم ننهض الآن، كمجتمع لا كأفراد فقط، فإن الغرق قادم.
ولن يُفرّق بين من خان ومن خُوِّن، ولا بين من حكم ومن حُكم.
لن تُنقذنا الخطابات، ولا الشعارات، ولا الاصطفافات.
الإنقاذ يبدأ حين نختار أن نرى بعضنا كأبناء وطن واحد، لا كأعداء.
حين نُدرك أن قوتنا في وحدتنا، لا في تمترسنا خلف هويات ضيقة ومؤقتة.
فهل ما زال هناك وقت للصحوة؟
قبل أن نصحو على وطن لم يعد يشبهنا…
أو وطن لم يعد موجودًا.
*رئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب بالنمسا.

د. تمام كيلاني
كلمات البحث
إقرأ أيضًا
سوريا الجديدة: لحظة الانتصار ومسؤولية البناء
رد على مقال أحمد نذير أتاسي: من خلط الوقائع إلى تبرير الخيانة!!
العالم كما يُراد لك أن تراه: حين تتحوّل الكاميرا إلى مدفع صامت
من ثورة الثامن من آذار إلى الحركة التصحيحية في سوريا
مجزرة سربرنيتسا: ثلاثون عامًا وما زال الجرح مفتوحًا (1995 - 2025)
الاكثر شهرة
أسئلة مباحة في زمن صعب!!
أسئلة مباحة في زمن صعب!! رامة ياسر حسين* هل حصلنا على الحرّيّة حقًّا أم زادت المسافات...
سورية قادرة على النهوض من جديد!!
سورية قادرة على النهوض من جديد!! فن ومدن* في ليلة مفعمة بالمشاعر والأمل، اجتمع أبناء الجالية...
"محمود حامد" الفلسطيني.. ينتظر عروجاً تالياً من "دمشق" إلى "بيسانه"!!..
"محمود حامد" الفلسطيني.. ينتظر عروجاً تالياً من "دمشق" إلى "بيسانه"!!.. * درويش استلافاته كثي...
مطار دمشق
أفضل طيران في العالم.. أول الواصلين إلى دمشق❤️ الخطوط الجوية القطرية تستأنف رحلاتها الجوية...