الخطاب الطائفي… خطر يهدد الوطن والإنسان معًا
د. تمام كيلاني
الخطاب الطائفي… خطر يهدد الوطن والإنسان معًا
د. تمام كيلاني*
في المراحل المفصلية من تاريخ الشعوب، لا تكون التحديات أمنية أو سياسية فحسب، بل أخلاقية وثقافية أيضًا. فالكلمة في أزمنة الأزمات تتحول إلى أداة بالغة التأثير: إما أن تسهم في التهدئة وبناء الوعي، أو أن تتحول إلى وقود للفتنة والانقسام. ولعل أخطر ما يواجه المجتمعات في مثل هذه الظروف هو انتشار الخطاب الطائفي، لما يحمله من قدرة على تفكيك الوطن من الداخل وضرب أسس العيش المشترك.
الخطاب الطائفي لا يستهدف فردًا بعينه، بل يضرب فكرة الوطن ذاتها. فهو يحوّل الاختلاف الطبيعي بين أبناء المجتمع إلى صراع حاد، ويستبدل الهوية الوطنية الجامعة بانتماءات ضيقة تقوم على الإقصاء والتخوين. وعندما تسود هذه اللغة، يفقد المواطن إحساسه بالأمان والانتماء، ويتحوّل الوطن من مساحة جامعة إلى ساحة صراع مفتوح.
إن أي اعتداء على حياة السوريين، سواء طال المدنيين أو عناصر الأمن المكلفين بحماية الاستقرار، هو خسارة وطنية لا يمكن تبريرها أو التقليل من شأنها. فالدم السوري واحد، وقيمته لا تتغير بتغير الموقع أو الرأي أو الانتماء. والعنف، مهما كانت ذرائعه، لا يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق الحرية أو العدالة، بل يؤدي حتمًا إلى مزيد من الفوضى والانقسام.
وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد على أن الحرية والتعبير والتظاهر السلمي حقوق مشروعة، وهي من الركائز الأساسية لأي مجتمع حي. غير أن هذه الحقوق تفقد معناها حين يتم استغلالها للاعتداء على قوى الأمن، أو لتخريب الممتلكات العامة والخاصة، أو لجر البلاد نحو العنف. فالتظاهر السلمي مسؤولية وطنية، وحمايته تكون بالحفاظ على سلميته، لا بتحويله إلى أداة للفوضى وسفك الدماء.
ولا يمكن الحديث عن مستقبل وطني سليم دون التوقف عند ملف العدالة والمحاسبة. إن ما شهدته سورية إبان النظام البائد من جرائم حرب، وقتل وتعذيب واعتقال، وما ارتبط بها من سجون معروفة، إضافة إلى ما لحق بالمدن والمستشفيات والبنى التحتية من تدمير، لا يجوز أن يذهب طيّ النسيان. فالتغاضي عن هذه الجرائم لا يصنع سلامًا، بل يؤجل الانفجار ويعمّق الجراح.
إن العدالة ليست انتقامًا، بل ضرورة وطنية وأخلاقية. وكل من تلطخت يداه بدماء السوريين، أو شارك في قتلهم أو تعذيبهم أو انتهاك كرامتهم، يجب أن يُحاسب أمام محاكم رسمية عادلة ومستقلة، بعيدًا عن منطق التشفي أو الثأر. فدولة القانون لا تقوم إلا بالمحاسبة، ولا تُبنى الثقة بين المواطن والدولة دون إنصاف الضحايا وضمان عدم تكرار الجرائم.
لقد كانت سورية، عبر تاريخها، وطنًا للتنوع والتعدد، لا حكرًا على فئة أو طائفة أو فكر واحد. وهذا التنوع لم يكن يومًا مصدر ضعف، بل عنصر غنى وقوة. وقوة الدولة الحقيقية تُقاس بقدرتها على حماية جميع مواطنيها دون تمييز، وبمدى شعور الإنسان فيها بالكرامة والأمان والمواطنة المتساوية.
إن الخروج من دوامة العنف والانقسام لا يكون بالتحريض ولا بالإقصاء، بل بالحوار الوطني المسؤول، القائم على الاعتراف المتبادل، واحترام الاختلاف، والاحتكام إلى القانون وحقوق الإنسان. فالحوار ليس ضعفًا، بل وعيا، وبناء الدولة لا يتحقق إلا بتغليب العقل على الغرائز، والعدالة على الانتقام، والوطن على كل الانتماءات الضيقة.
إن حماية سورية تبدأ بحماية الإنسان السوري، وصون كرامته، وحقه في الحياة والأمان والعدالة. وحده الوعي الوطني الجامع، القائم على المواطنة والمحاسبة والسلم الأهلي، قادر على وقف النزيف، وفتح أفق لمستقبل يليق بتضحيات السوريين وآمالهم .
*رئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب بالنمسا