السيدة الفولاذية ونساء الشرق: قراءة في مئة عام على ميلاد مارغريت تاتشر

د. تمام كيلاني
السيدة الفولاذية ونساء الشرق: قراءة في مئة عام على ميلاد مارغريت تاتشر
تمام كيلاني*
في مثل هذا اليوم، الثالث عشر من تشرين اول / أكتوبر عام 1925، وُلدت مارغريت هيلدا تاتشر في بلدة صغيرة شرق إنجلترا، لتصبح بعد عقودٍ أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في تاريخ بريطانيا، وأحد أبرز رموز السياسة في القرن العشرين.
اشتهرت بلقب “السيدة الفولاذية” لما امتازت به من صلابة الإرادة وقوة الحضور وحزم القرار، حتى غدت مثالًا عالميًا للمرأة القادرة على اقتحام معاقل السلطة في عالمٍ ظلّ طويلًا حكرًا على الرجال.
لكنّ هذه الذكرى المئوية ليست مناسبة لتمجيد شخصية غربية فحسب، بل فرصة لنتأمل في تاريخنا العربي والإسلامي، ونستحضر نساءً حكمن قبلها بقرونٍ من الزمن، فتركن أثرًا خالدًا في الذاكرة السياسية والحضارية.
إن في تاريخنا سيداتٍ حكمن بقوة وعدل وسلام، فكنّ بحقّ “حديديات الشرق” قبل أن تُولد “السيدة الحديدية” في الغرب.
مارغريت تاتشر… امرأة غيّرت وجه السياسة الغربية
تاتشر لم تكن مجرّد سياسية بريطانية، بل تحوّلت إلى ظاهرة فكرية واقتصادية.
قادَت بلادها بين عامي 1979 و1990، وهي أطول فترة حكم متواصلة لرئيس وزراء بريطاني في القرن العشرين.
آمنت باقتصاد السوق، وخفّضت دور الدولة، وواجهت النقابات العمالية بشجاعة، وخاضت حرب جزر الفوكلاند عام 1982 دفاعًا عن السيادة الوطنية.
كانت تاتشر تؤمن أن “القيادة لا تُوهَب، بل تُنتزع بالجدارة”.
ورغم الانتقادات لسياساتها القاسية، تبقى رمزًا لامرأة كسرت التقاليد، وأثبتت أنّ العقل السياسي والحزم الإداري لا يعرفان جنسًا ولا لونًا.
نساء حكمن الشرق… قبل “السيدة الفولاذية”
بلقيس – ملكة سبأ
قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، حكمت بلقيس مملكة سبأ في اليمن القديم، فكانت مثالًا للحكمة والدهاء.
ذكرها القرآن في سورة النمل، وأشاد بعقلها وسياستها القائمة على المشورة لا على التهور:
قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون
كانت بلقيس رمزًا للقيادة العقلانية المتوازنة، وقد نجحت في تجنيب قومها الحروب بالدهاء والدبلوماسية، لا بالسيف.
شجرة الدرّ – سلطانة مصر (1250م)
من جارية إلى سلطانة، من خلف الحجاب إلى عرش الحكم، كانت شجرة الدرّ أول امرأة تحمل لقب “سلطانة” في تاريخ مصر الإسلامية.
تولت الحكم بعد وفاة زوجها الملك الصالح أيوب، في لحظة من أشد لحظات الاضطراب، حين كانت البلاد تواجه خطر الغزو الصليبي.
أدارت المعارك ببراعة، وحافظت على وحدة الدولة، وضُربت النقود باسمها، وخُطب على المنابر بذكرها.
كانت شجرة الدرّ امرأة قرارٍ في زمن الرجال، لا تقل حزمًا عن تاتشر في مواجهة أزماتها الداخلية والخارجية.
الملكة أروى بنت أحمد الصليحي – اليمن (1067–1138م)
عرفها المؤرخون بلقب “السيدة الحرة”، وكانت من أكثر النساء نفوذًا في تاريخ اليمن.
حكمت البلاد بعد وفاة زوجها، وامتد سلطانها سبعة عقودٍ من الزمان، تميّزت فيها بالعدل ورعاية العلم والعلماء.
كان اسمها يُذكر في خطبة الجمعة، وهو اعترافٌ صريحٌ بسلطتها السياسية والدينية.
كانت أروى تحكم بعقلٍ منفتح وروحٍ إصلاحية، ومارست سلطتها بسلامٍ وعدالة، حتى صارت رمزًا للمرأة المسلمة العاقلة التي جمعت بين الإيمان والسياسة.
رضية الدين – سلطانة دلهي (1236–1240م)
في الهند الإسلامية، اعتلت رضية الدين عرش دلهي بعد وفاة أبيها السلطان شمس الدين إلتمش.
كانت متعلّمة، فارسة، شجاعة، وأدارت الحكم بنفسها، ولبست لباس الأمراء لتقود المعارك.
واجهت تمردًا من بعض قادة الجيش الذين رفضوا أن تملكهم امرأة، لكنها خاضت معركة الكرامة حتى النهاية.
نساء ما قبل الإسلام
لم يكن زمن الجاهلية خاليًا من نساءٍ حكيمات، فقد عُرفت أروى بنت الحارث والزبّاء ملكة تدمر بالشجاعة والرأي والمكانة بين قومهن.
كانت الزباء، على سبيل المثال، ملكة مقاتلة وقائدة سياسية بارعة، أسست دولة قوية في الشام، قاومت الإمبراطورية الرومانية حتى النهاية.
بين تاتشر ونساء الشرق: دروس في القيادة
رغم البون الزمني والحضاري، تشترك مارغريت تاتشر مع بلقيس وشجرة الدرّ وأروى بنت أحمد في سمات القيادة الفعالة:
1. الإرادة القوية في مواجهة التحديات.
2. القدرة على اتخاذ القرار دون تردد.
3. الذكاء السياسي والبعد الاستراتيجي في إدارة الأزمات.
4. الإيمان برسالة تتجاوز الذات، سواء كانت خدمة الأمة أو حماية الوطن أو إصلاح الدولة.
لكن الفارق الجوهري أن النساء العربيات والمسلمات حكمن بالعدل والسلام، ولم يكن في سجلّهن استعمارٌ ولا قهرٌ للآخرين، بل إصلاحٌ ورعايةٌ وحكمة.
لقد جسّدن صورة الحاكم المتزن الذي يجمع بين القوة والرحمة، والسلطة والعقلانية.
خاتمة: حين تتحدث “الحديديات” بلغات مختلفة
إذا كانت مارغريت تاتشر قد غيّرت وجه السياسة الغربية بقبضتها الحديدية، فإن الشرق بدوره كان ولا يزال غنيًا بنساءٍ حكمن بعقلٍ نيرٍ وضميرٍ عادل.
إنّ بلقيس، وشجرة الدر، وأروى بنت أحمد، ورضية الدين لم يكنّ أقل شأنًا من تاتشر، بل ربما سبقنها في بناء نموذجٍ إنسانيّ للحكم الراشد.
إنها الحقيقة التي ينبغي أن تُقال اليوم، ونحن نحتفل بمرور قرن على ميلاد السيدة الفولاذية:
في عالمنا العربي والإسلامي، وُجدت سيدات حكمن بقوة وعدل وسلام، فكنّ مدرسة في القيادة لا تقل إشراقًا عن الغرب.
*رئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب في النمسا
كلمات البحث
إقرأ أيضًا
الاكثر شهرة
المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق
المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق مؤتمر الياسمين فن ومدن* تحت عنوان (الابتكارات الطب...
أسئلة مباحة في زمن صعب!!
أسئلة مباحة في زمن صعب!! رامة ياسر حسين* هل حصلنا على الحرّيّة حقًّا أم زادت المسافات...
عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح باب الحوار
عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح باب الحوار ملاك صالح صالح* في الكثير من البيوت العربية،...
الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!!
الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!! ملاك صالح صالح* قبل أن تبدأ رحلتنا في بحر ال...